في تشرين الأوّل / أوكتوبر من العام الماضي، ومع تصاعد التأزّم السعودي في المنطقة، قرّرت السعودية سحب سفيرها البخاري من لبنان وقامت بطرد نظيره اللبناني في الرياض، ودعت الدول التي تدور في فلك سلمانها إلى القيام بالمثل. وجاء ذلك ردًّا وامتعاضًا واستنكارًا لحديث لوزير الإعلام اللبناني آنذاك جورج قرداحي الذي وصف فيه العدوان السعودي على اليمن بالحرب العبثية.
سحبت السعودية سفيرها وخيمته، وانهالت الاستنكارات الغاضبة على الوزير من أهل تمسيح البلاط السلماني، ولا سيّما من جماعة حريّة التعبير. حدث ما حدث، ووضعت السعودية شروطًا للعودة إلى لبنان، شروط هي أقرب إلى الابتزاز السياسي الدال على حجم العجز السعودي في المنطقة. ومنذ ذلك الحين، لم يكف المتسعودون في لبنان عن التنافس فيما بينهم لمراضاة الخاطر السعودي، بأكثر الأساليب تذلّلًا وانبطاحًا، فيما لم يعرهم ملكهم ومالكهم أي انتباه، مكرّرًا الشروط التي وضعها للقبول بعودة العلاقات اللبنانية-السعودية إلى مرتبة تبادل التمثيل الدبلوماسي.
الآن، وبعد مضيّ أشهر على الحرد السعودي، وبدون أن يتحقّق أي شرط من شروط العودة البخارية، قرّر بنو سعود العودة تجاوبًا مع ما سمّوه مطالبة “القوى المعتدلة”. القوى المعتدلة وفق تعريف القاموس السعودي هي القوى التي تنبطح عند خيمة السفير، وتعمل في خدمته وخدمة دولته بنظام “طلباتك أوامر” الذي تشغّله السعودية وترصد له مبالغ وخدمات مدفوعة سلفًا.
الآن يمكن للمستعربين في البلد أن يستعيدوا نشاطهم المعتاد في التذلّل وجهًا لوجه في خيمة البخاري بعد أن أجبرهم سحبه على اعتماد تقنية التذلّل عن بعد، والتي لا تشفي حاجتهم الإدمانية رغم التطوّر التواصلي الذي أتاح لهم مناشدته باعتماد الڤيديو كول وباستخدام معظم المنصّات الافتراضية، بالإضافة إلى الإعلام التقليدي الذي جنّد نفسه في خدمة تنفيس الاحتقان السعودي عبر رجم قرداحي الذي انتهى به الأمر بالاستقالة مراعاة لمشاعر المنبطحين وأسيادهم.
والآن، يمكن التفرّج على همروجات استقبال الخيمة العائدة والمزدانة بأكياس النقود وبعض الشاي بالياسمين، بشماتة جميلة. فالعائد متحجّجًا بمناجاة رئيس الحكومة المكتوبة في الرياض تمامًا كاستقالة سلفه ذات “ريتز”، عاد كما سُحب، خائبًا عاجزًا عن تحقيق أيّ من شروط دولته.
حسنًا، سيعود وانتهى الأمر، ومَن لم يأسف على سحبه كما لم يتأثر قبلها بإدارته المباشرة للفريق السعودي الأميركي في لبنان، لن تضرّه عودته الآن، وإن رافقتها علامات استفهام عديدة، أبرزها على سبيل المثال: هل عاد ليدير بنفسه المعركة الانتخابية بعد تأكّد بلاده من عجز صبيانها عن إدارة أزقّتهم؟ هل عاد لتحريك خلايا اشتهرت السعودية بتصنيعها وتمويلها وبثّها في البلاد؟ هل عاد لأن بلاده أيقنت أنّها ارتكبت خطأ سياسيًا جسيمًا بالانسحاب الذي زاد من عجزها عن السيطرة على الوضع اللبناني؟ يمكن إضافة الكثير من الاحتمالات بعد “هل عاد”، لكنّ الأكيد أنّه يعود مشتاقًا لطابور التذلّل السيادي عند عتبة خيمته، التي لا يدخلها سوى منبطح أو مرتزق أو مطبّع أو عامل في حقل الخدمات السعودية، عرضًا وطلبًا.
النص يعبر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة عن رأي الموقع
التعليقات مغلقة.