عبد الرحمن جاسم – خاص الناشر |
منذ عشرة أيامٍ خلت، بدأ معرض بيروت العربي والدولي للكتاب في سنته الثالثة والستين. البارحة انتهى المعرضُ بشكلٍ رسمي. أكثر ما لفتني خلال أيام المعرض العشرة كمية “النائحين” و”النائحات” على حال المعرض.
نجح المعرض فعليًّا، وعلى الأرض، من خلال حضور عدد كبير من الجمهور. طبعًا التقييم على النجاح والحضور هو مرتبط أيضًا بأزمات لبنان التصاعدية، إذ مثلًا في اليوم الرابع من المعرض حدثت “أزمة” بنزين، في الأيام الأخيرة كان هناك عاصفة رعدية، وأمطار، وبرد قارس، يضاف إلى كل هذا أسعار الكتب المتصاعدة، وإن راعت بعض دور النشر أوضاع القرّاء.
سأتحدث بداية من كوني أحد “المشاركين” في المعرض كدار نشر. وقّع دار المجمّع الإبداعي ستة كتبٍ في هذا المعرض. تشهد الصور، وعدد النسخ المباعة، وعدد الزوار على أنَّ هذه التوقيعات كانت ناجحة وللغاية. هذا من جهة، يعني أنَّ المعرض على الأقل من وجهة نظرنا كان ناجحًا. شاهدتُ بأم العين –كذلك- أكثر من خمسين كاتباً وقعوا كتبهم، وكان هناك حضور، بعضه كان خجولًا، والبعض الآخر كان كبيرًا ويستحق المتابعة.
حضر عدد كبير من الناس لمشاهدة نشاطات دار المودّة بعد حادثة محاولة “تخريب” المعرض ومحتويات هذه الدار. وهذا أعطى المعرض زخمًا، وحركةً حول جناح دار المودة، والأجنحة حوله كذلك. الكافتيريا كانت ممتلئة غالبية الوقت، رغم البرد الشديد في الأيام الأخيرة من المعرض، إلا أنه كان من الصعوبة إيجاد “مكانٍ للجلوس”.
ماذا إذًا عن نواح مدّعي “الثقافة”؟ مشكلة “مدّعي” الثقافة أنهم يعتبرون أن عليهم أن “يدلوا” بدلوهم في كل شيء. أن يعطوا رأيهم في كل ما يحدث حولهم، حتى ولو كان رأيهم غير مهمٍ. في الغالب، يكون “مدعو” الثقافة “غاضبين” “لا يعجبهم الوضع” “متذمرين”. هنا يكمن معنى توصيفهم “بمدعي ثقافة”؛ على الرغم من كل تلك الصفات (الادعاء، التذمر، عدم اعجابهم بالوضع)، فإنّهم لا يفعلون شيئاً لتغييره، لا شيء أبدًا، لا شيء البتة، لا شيء، باختصار: لا شيء سوى النواح والتذمر والشكوى. وهذه المرّة الشكوى هي لغير الله بالتأكيد، وهذه المرّة هي “مذلة”.
قرأت غير مرةٍ عند أحدهم أنَّ “المعرض” كان “فاشلًا” و”يفتقد” للدور العريقة. ماذا عن دور كالنهار مثلًا؟ مركز دراسات الوحدة العربية؟ مركز الدراسات الفلسطينية؟ ماذا عن دار رياض نجيب الريس؟ ماذا عن دار أوال؟ هذه كلها “غير عريقة” بحسب “المتحدثين”. قرأت أيضًا عن “الاحتلال الإيراني” و”أن الدور بأكملها شيعية”: أين الاحتلال الإيراني؟ هل صورةٌ واحدةٌ تجعل المعرض “محتلًّا”؟ قرأت عند احدهم أنه كان يريد أن يسمع “نقاشات الكافتيريا” المعتادة والخلافات المتصاعدة من هناك. نقطتان في النظام –على عادة الـNGO’s- الأولى البرد –يا أيها المثقّف الهمام- منع مناقشات الكافتيريا، وليس الإيرانيين والشيعة. أما النقطة الثانية، نقاشات الكافتيريا لم تسهم –في حياتها- في تقدّم أي حضارة.
أكثر من هذا، ما الذي يحدد نجاح نشاطٍ من عدمه؟ الناس. ببساطة حضر الناس إلى المعرض، واشترى الناس كتبًا، وقلما خرج شخصٌ من المعرض بلا كتبٍ في جعبته. كان هناك كتبٌ للجميع. يضاف إلى هذا كله أن أي نشاط ثقافي مرتبط بالكتاب والقراءة وصنعتهما يجب أن يدعم ويشجع ويقوّى إلا لدى “مدعي الثقافة”، فهؤلاء يريدون “عرسًا ثقافيًّا” من تلك التي ترعاها دول الخليج: حفلات فارهة، نجوم سينمائيون وغربيون وعرب يحضرون مع تضحل ثقافتهم وثيابهم البراقة وابتسامات هوليوودهم. نحن لسنا في تلك الدول، ولن نكون، ومع هذا أنا شخصيًّا لست ضد معارض من هذا النوع؛ فقد شهدت غير مرةٍ حينما جاءت هيفا وهبي أو أصالة نصري وسواهن من “مشاهير الترند” إلى معارض الكتاب، وشاهدت كذلك التجمهر حولهن. وفي هذا لا مشكلة، ولم أرفع الصوت يومًا ضد حضورهن، لكن لم أطلبه كذلك، فهو ليس “اضافةً” لأي معرض كتاب.
سينوح مدّعو الثقافة كعادتهم، هم لا يعجبهم شيء، ولا يفعلون شيئًا كذلك. هم فقط “نائحون”. سينخر السوس عظامنا إن جلسنا، ومع هذا إذا ما قمنا بأي شيء، سيأتي أمثال هؤلاء كي “ينوحوا” فوق رؤوسنا ضمن منطق: المعرض فاشل، المعرض ايراني، المعرض كله لطائفة معينة.
سأقولها بالصوت الملآن وللمرة الأخيرة: كان معرض بيروت العربي والدولي بنسخته الثالثة والستين ناجحًا، حلوًا، مشجعًا على قدر ما استطاع. لم يكن معرضًا إيرانيًّا، لم يكن معرضًا لطائفةٍ واحدة، ولم يكن كذلك لأناس/اثنية محددة. كان معرضًا للجميع. كنتُ هناك، قلبي كان هناك؛ كنت عاملًا، شاهدًا، ومبصرًا، وكفى.
النص يعبر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة عن رأي الموقع
التعليقات مغلقة.