منذ سقوط الدولة العثمانية في القرن الماضي إلى ما قبل نحو عقدين من الزمن، غاب ذكر تركيا في لبنان إلا في بعض المناسبات القليلة؛ فالرجل الخمسيني اليوم لا يذكر في شبابه أنّه كان يسمع حتى عن تركيا في الأخبار. اليوم، تركيا هي الوجهة الأبرز للسياح اللبنانيين، ساستها مشهورون، فنانوها مشهورون، طباخوها مشهورون، وحتى شوارعها وأزقتها باتت مشهورة عند اللبنانيين، فكيف تسللت تركيا إلى لبنان والدول العربية؟
ليس مخفيًّا تعلّق شريحة كبيرة من المسلمين بالدولة العثمانية، ليس تعلّقًا مربوطًا بأفعال أو تسليم مطلق بل وقوف على الأطلال لزمن يعتبرون أنّه كان للمسلمين فيه عزّ وقوّة ووحدة افتقدوها بعدها حتى باتوا كالأسوار المتباعدة بعد أن كانوا كالبنيان المرصوص تنفيذًا لوصيّةٍ نبيّهم.
ثورة المسلسلات والسياحة التركية
تعرّف العرب على مسلسل “نور” في عام 2005، وهو مسلسل تركيّ ما زال الأشهر في العالم العربي الذي تابعه مدبلجًا للعربية حتى بلغ عدد مشاهدي الحلقة الأخيرة منه نحو 85 مليونًا، فكانت ثنائيّة “مهنّد” و”نور” ناجحة لدرجة تسمية المئات من الأطفال حينها بهذين الاسمين تيمنًا بالشخصيتين، وكانت من هذا المسلسل بداية عصر المسلسلات التركية المدبلجة وغير المدبلجة والتي ستستمرّ حتى يومنا هذا.
دخل الأتراك المجتمعات العربية، دخلوا كلّ منزل، فكانت مسلسلاتهم العامل الأهم الذي دفع بالعرب إلى زيارة تركيا، وكانت المسلسلات عبارة عن إعلان طويل لوزارة السياحة التركية فيتعمّدون تصوير الطبيعة والجبل والبحر والحياة الليلية والحفلات في تركيا بأسلوب تجاريّ ناجح جدًا هو المسلسلات (شبيه بدعايات الولايات المتحدة في هوليوود).
بزوغ فجر أردوغان وحال المنطقة العربية
واكب أردوغان هذه الحقبة كرئيس للحكومة وبعدها كرئيس للجمهورية، في الوقت الذي كانت تشهد منطقتنا فيه ما سُمّيَ بالربيع العربي، وما حصل بعده من سقوط أنظمة وتغيّر زعامات عربية يبلغ عمرها العشرات من السنوات. قُتل صدّام والقذافي وعرفات والحريري وسُجن مبارك وسقط زين العابدين، سقط العراق واليمن وسوريا وليبيا والسودان وانشغل الناس بالحروب وبات الوطن العربي ممزّقًا أكثر من أي وقت مضى بغياب وجوه قيادية وزعماء بخطاب عربي واحد، كيف لا وقد انتهى عصر القومية وتمّ استبداله بالإسلام السياسي؟ بدأ توغّل ما يُسمّى بالإخوان المسلمين أو الجماعة الإسلامية إلى ساحات العالم العربي بمحاولة منهم للاستيلاء على الحكم من أجل تحقيق أحلام سيّد قطب الذي كفّر البشرية جمعاء لأنها لم تخرج عن حكامها الذين يحكمون بغير حكم الله وشريعة الإسلام فأخذوا الحكم في مصر برعاية محمد مرسي، واستولوا بقوة السلاح على طرابلس-ليبيا، وحكمت حركة النهضة تونس بعد انتخابات 2011، وحكم عمر البشير وحزبه المنشق عن الإخوان السودان، وحاول الإخوان في سوريا جمع المعارضة حولهم (كان الوهابية أسرع منهم في سوريا)، ونال حزب العدالة والتنمية الإخواني أكثرية نيابية في البرلمان المغربي منذ عام 2011 حتى عام 2021…
فلنتوقف عند تسمية حزب العدالة والتنمية في المغرب، هذه التسمية نفسها تطلق على الحزب الحاكم التركي الذي أسسه رجب طيب أردوغان مطلع القرن الحالي والذي لم يكتفِ بالوصول إلى الحكم في تركيا وحسب بل تجاوز تركيا ووصل إلى شعبية كبيرة نسبيًا في نفوس العديد من العرب. وهنا لا نتكلّم عن المنتمين إلى الإخوان فحسب بل عن المواطن العربي الذي يشعر بالضعف ويتوقُ لرؤية زعيمٍ مسلمٍ قويّ يسعى للوحدة الإسلامية بخطاب جامعٍ مذكرٍ بزمنٍ كان فيه المسلمون هم الحاكمين والأقوياء ووجدوا برجب طيّب أردوغان مرادهم.
الدعاية الأردوغانية
كان مسلسل “وادي الذئاب” الشهير من أبرز محطات نشر البروباغندا. مراد علمدار مجنّد من الدولة التركية لمحاربة المافيا والفاسدين في تركيا، فظهرت شخصية هوليوودية-بوليوودية محنّكة ذكية قوية تستطيع فعلَ ما شاءت ومتى شاءت. ومن هذا المسلسل تمّ التطرّق للقضية الفلسطينية ومحاربة الإرهاب والحرب السورية والعراقية وسعي دول العالم الغربي إلى فرض سيطرتها على العالم الإسلامي لا سيّما العربي الذي هو جار تركيا التاريخي وكيفية سعي تركيا لإحباط هذه المخططات والمحافظة على شعوب هذه الأراضي التي لا تنفصل هي عنهم والعكس.
جاءت بعد هذا المسلسل مسلسلات تحيي ذكرى السلطنة العثمانية كمسلسل “حريم السلطان” و”أرطغرل” و”قيامة عثمان” و”عبد الحميد” وغيرها، وتابع العرب هذه المسلسلات بشغف وتحسّر ووقوف على أطلال زمن عندما كنا أمّةً إسلاميةً واحدة عظيمة.
أهداف أردوغان
انتهى زمن القومية العربية وبدأت بعده حقبة الإسلام السياسي. تصاعدت قوةُ الأحزاب الدينية المتشدّدة كثيرًا في الوقت الذي مال فيه غالبية المواطنين للابتعاد عن التديّن أو أقلّه التشدّد، وباتوا يتأثّرون بعادات الغرب وطريقة حياتهم. قوّتان إقليميتان برزتا في هذه الحقبة بعد سقوط مشروع عبد الناصر في مصر القومي وبعد سقوط بغداد وما كان لها من قوة إقليمية وتفرّدت المملكة العربية السعودية والجمهورية الإسلامية في إيران بالواجهة. وبالنسبة للمراقب الذي لا يرى اختلافًا بين نظامي الحكم في الدولتين اللذين يرتكزان على الشريعة الإسلامية في أغلب قوانينهما، أخذ الصراع بين الدولتين شكله المشهور وهو المذهبي بين السنّة والشيعة، هذا كان قبلَ أن تدخل تركيا فارضةً نفسها قوةً إقليمية ثالثة مغيرةً العديد من ملامح هذا الصراع.
تركيا دولة ذات أغلبية مسلمة تبلغ نسبتها 98% من السكان غالبيتهم من السنّة. هي دولة اعتبرها العديد أنها تمزج بين الحضارتين الإسلامية والغربية بنظام حكم حديث مغاير لإيران والسعودية. ورأى فيها كثير من المسلمين غير المتشددين دولةً تشبههم وتشبه طريقة الحياة التي تُرضي شخصيتهم المسلمة التي تميل لبعض عادات الغرب، ورأى في أردوغان زعيمًا كاريزماتيًّا يتكلّم بلسان مسلمٍ معتدلٍ مناهض لسيطرة الغرب على بلادنا والمشروع الصهيوني وداعيًا مسلمي العرب وتركيا إلى التآخي واللحمة، فصار يردّد هذا المواطن عبارة “لك هيدا زلمي، يا ريت عنا هيك زعيم”.
لا شكّ أن أردوغان إنسان ذكي، ذكيّ لدرجة استطاع إقناع جمهوره العربي والتركي أنه مناصر للقضية الفلسطينية ومعارض للوجود الصهيوني في فلسطين وهو يستقبل رئيس جمهورية كيان العدو، وهو يوقع قرارات تعزّز التبادل التجاري التركي الإسرائيلي وتعلن عن نيّة تبادل خبرات عسكرية قريبة. أردوغان يحتلّ أراضيَ سورية، يتدخّل عسكريًا في سوريا وليبيا، وصوَره تُرفع في بعض المناطق في بلادنا وفلسطين إلى جانب العلم التركي، لديه حلفاء يدعمهم في العديد من الدول العربية، يسعى لدعم جماعات في الدول العربية يكون ولاؤها له كما فعلت إيران قبله، ويسعى ليصبح اللاعب الإقليمي الأبرز.
ماذا فعلت تركيا؟
إيران تدعم جماعات غالبيتها العظمى من الشيعة، أردوغان لن يستقطبهم، بل سيستقطب السنّة. اليوم لا تستطيع تصوير الصراع في المنطقة على أنه سني-شيعي في وجود أردوغان، المملكة العربية هي من ستتأثر، واليوم قد تبدو مجرّد نظرية مؤامرة ولكن لا شكّ بأنّ التغييرات المعيشية التي تعتمدها المملكة حديثًا تُفيدها كي تُظهر للعالم العربي أنّها لم تعد دولةً متشددةً تلتزم بقوانين الشريعة الإسلامية والعادات بل هي “تتطوّر” وتصبح وجهةً سياحية وتُعرّف عن نفسها حديثًا دولة وشعبًا يشبه باقي الشعوب العربية تحبّ الحفلات والرفاهية والسينما والسياحة والعمران والتطوّر وأن لا ضرورة للسفر إلى تركيا والتأثر بها بل يمكننا أن نصبح أفضل منهم في هذه الناحية بمجهودنا وضمن بلادنا العربية.
الصراع اليوم هجين بعض الشيء، سني-شيعي مع لفحة عربي-فارسي-تركيّ. اليوم ووسط كل المشاكل الاقتصادية التي أصابت تركيا بسبب العقوبات، رأينا البارحة الرئيس التركي يصافح ويستقبل رئيس كيان العدو “الإسرائيلي” في “سلطنته”. ماذا يريد أردوغان؟ يريد زعامة إقليمية تتحوّل لقوّة عالمية، مستعدٌ لفعلِ أي شيء ومستعدٌّ لإظهار نفسه مظهرَ المنافق الكاذب المدّعي عند أول مفرق يجد نفسه فيه مأزومًا. شعوبنا عاطفية وتعيش زمن الميلِ مع كلِّ ناعق، عسى نشهد يومًا يدرك فيه العرب طاقاتهم وقوتهم الحقيقية ولا يحتاجون لمن يستفيد من وهنهم وضياعهم ليصعد على أكتافهم.
النص يعبر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة عن رأي الموقع
التعليقات مغلقة.