يتقنُ التجّار إدهاشِنا مع كلّ احتكارٍ أكثر، بل هم لا يكفّون عن دفعنا إلى الاستغراب أكثر حتّى في الزّمن الذي بِتنا نتوقّع فيه منهم كلّ شيء، حتّى الجريمة الموصوفة.
يخطىءُ من يحسبُ التجارة قطاعًا اقتصاديًّا قائمًا مرتبطًا فقط بالسّلع وبالعرضِ والطّلب وبالأسواق. فالتجارة اليوم مجال اتّسع ليغزو كلّ القطاعات، حتى تلك التي يسبق الالتحاق بها قسَم احترام الإنسان والحفاظ على الشّرف المهني.
“الصّيدلة” جزء من القطاع الطبّيّ الذي ينبغي، ولو بالشّكل، أن يقدّم كلّ إمكاناته في سبيل رفع الوجع عن الإنسان. والصيدلية ليست دُكان أدوية يحوي سلعًا يستطيع التاجر أن يتلاعب بتوفّرها بقدرِ ما هي زاوية يجب أن يتوفّر فيها الدواء والتركيبات العلاجية التي لا يطلبها المرء إلّا لحاجة قد تكون حيويّة، وليست بأيّ حال من الأحوال بضائع كمالية تُطلب ترفًا أو دلالًا. والجانب التجاريّ من هذا القطاع يجب أن لا يكون بأي حال من الأحوال عنصرًا يبيح للصيدليّ أو للعامل في هذا القطاع الاحتكار لرفع الأرباح.
بالأمس داهمت بلدية الغبيري إحدى الصيدليّات الواقعة في نطاقها. المقاطع المصوّرة التي انتشرت على منصات التواصل أظهرت كميّات معقولة من أدوية قيل إنها “مقطوعة” منذ مدّة. كلّ من شاهد هذه المقاطع مرّ في هذه الفترة بتجربة البحث عن دواء مقطوع، أو عرف بقريبٍ أو جارٍ أنهكه البحث عن دواء أو عن بديل له ولم يجد. ولذلك، ترك المشهد وقعًا مؤلمًا في صدر كلّ من رآه. فنحن أمام جريمة حقيقية. جريمة وقع ضحيّتها كلّ من استسلم للألم وكلّ من شعر بذلّ العودة إلى بيته عاجزًا عن القول لمريض فيه: أحضرتُ لك الدواء. بل كلّ من شعر أن تاجرًا ارتضى في هذه الأزمة وفي ظلّ هذا الحصار أن يجني ثروة على حساب المرضى ومحتاجي الأدوية المزمنة، علمًا أنه لم يكن من المطلوب أن يقدّم التاجر هذه الأدوية مجانًا، بل فقط القيام بواجب بيعها بربحه المعتاد.
أعاد المشهد إلى الذهن فضيحة التلاعب بأدوية السرطان والتي تمّت لفلفتها على حساب كلّ من وقع ضحية التداوي بدواء وهمي، وكلّ من خسر حياته في الصراع مع مرض كان بإمكانه أن يُشفى منه لو لم يقرّر تاجر في مستشفى أن يربح مالًا أكثر.
بشكل أو بآخر، جرم إخفاء مسكنات الألم وعلاجات أمراض المعدة وغيرها بغية بيعها فيما بعد بسعر أعلى لا يقلّ بشاعة عن جرم تبديل أدوية السرطان. فالمرتكب اعتدى وبشكل صارخ على حقّ المتألم بالتداوي وخان شرف مهنته. وهنا، قد يجد القانون والنصّ العقابيّ تفاوتًا بين الجريمتين، وقد يجد من يحاول التبرير للتجار فروقًا في ظروف ونتائج الجرم، إلّا أنّه بالمعيار الإنساني والأخلاقي، مجرّد الإتجار بحاجة الناس إلى الدواء هو ارتكاب قاتل.
إذاً، قبل أن يخفت جمر الوجع أمام صورة حليب الأطفال الذي فضّل تاجر الاحتفاظ به كي يبيعه لاحقًا بسعرٍ أعلى وبأرباح أكثر ثم اضطر إلى تلفه بعد أن بدأت المداهمات وخشي انكشاف الحمولة التي انتهى تاريخ صلاحيتها، جاءنا مشهد الدواء المخبّأ الذي حُرم منه مرضى وذوو أوجاع مزمنة. الفارق بين المشهدين والذي نحسبه لصالحنا كضحايا للاحتكار هو أن بلدية الغبيري كشفت الجريمة والمرتكب قبل أن تنتهي صلاحية الأدوية، وقبل أن يموت منا أحدٌ كان علاجه “المقطوع” مخفيّاً في مخازن المحتكرين، إن لم يكن قد مات فعلًا أحدٌ حتى الآن بسبب انقطاع الدواء.
الصيدلة مهنة إنسانية بالدرجة الأولى، والصيدلي يتكامل مع الطبيب لصون حقّ الناس بالتداوي. ولا دهشة توازي بألمها مشهدًا ترى فيه قاتلك هو من أوكلت إليه مهمة حفظ حقّك بالدواء، وبأجره وبأرباح محفوظة. بالمعيار الأخلاقي، ما رأيناه بالأمس، ما كشفته بلدية الغبيري، هو خيانة موصوفة، نأمل أن يكون كشفها سكينًا يقطع حبال التكافل بين تجار الوجع، وأن يتعظ المحتكرون حين يرون كيف على الملأ فقدوا شرفهم المهني وسمعتهم بعد أن فقدوا بالسرّ إنسانيتهم وأخلاقهم.
النص يعبر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة عن رأي الموقع
التعليقات مغلقة.