رندلى جبور* – خاص الناشر |
أسارع إلى القول قبل أي بداية، وعلى رغم كوني أستاذة جامعية، وأكاديميو الإعلام يستخدمون من السنة الأولى حتى السنة الأخيرة مع طلابهم مصطلحات مثل الموضوعية، إلا أنني لم أستسِغ يومًا هذه الكلمة. لم أفهمها بحقيقتها. تعريفاتها لا تشدّني، وزادت قناعتي تلك مع سنوات الممارسة المهنية. آمنت بأنها مجرد تعبير لفظي لتخويف الطلاب ورسم حدود وهمية لهم ليس إلا، وحين يصلون إلى ميدان العمل يكتشفون حقيقة أخرى، على هوى صاحب الميدان ومصلحته. البعض يعتبر الموضوعية مرتبطة بالدقة، والبعض الآخر بالحياد، والبعض الثالث بالحقيقة أو المصداقية. يمكنني أن أكون دقيقة وأن أحمل رأيًا وقضية. ويمكنني أن أقول الحقيقة وأكون ذات مصداقية وأن أحمل رأيًا وقضية. ولكن أن أكون على الحياد، فهذه ليست مهنتي على الإطلاق. لم أختر الإعلام والصحافة لأكون رمادية، بل اخترتها لأكون شريكة في صناعة الرأي العام. الصحافي ليس مخبرًا وحسب، الصحافي صناعيّ ينتج فكرًا ورأيًا عامًا.
وقد خضعت لدورات تدريبية في أكبر وكالات العالم، وأكثر الدول ديمقراطية، ورأيتهم كيف يمررون أفكارهم. يتحدثون عن الموضوعية ولكنهم يدسّون الرسائل التي يريدونها في كل قطعة إعلامية صغيرة أو كبيرة. يدسّون السمّ في عسل يسمّونه موضوعية. يأخذون المُشاهد أو المستمع أو القارئ إلى حيث يريدون بطريقة معالجتهم للخبر أو للحدث، وبالزاوية التي يتناولون فيها قصّتهم. لكل قصة ألف وجه ووجه. وهم يختارون وجهًا واحدًا ويغفلون الوجوه الأخرى، فيصنعون رأيًا عامًا من خلال الزاوية التي اختاروها. هكذا فعلوا تجاه ما حصل في مناطقنا، من سوريا الى العراق وكل الدول العربية وصولًا إلى ما بعد بعد دولنا.
أما في لبنان، فلا إعلام ما بين بين. هناك إعلام مع المشاريع الخارجية وهناك إعلام حامل قضية وطنية. هناك إعلام يقبض وهناك إعلام يدفع أثمان مواقفه المشرّفة. هناك إعلام ينفذ أجندات بطريقة برّاقة وهناك إعلام أجندته الوحيدة هي لبنان.
ليست هناك مؤسسة إعلامية بلا خط سياسي أو سقوف، وهذا طبيعي. ولكن هناك إعلام يدّعي الحياد وهو غاطس في مياه لها لون وطعم مُرّ. وهناك إعلام يعلن لونه ولا خشية لديه من ذلك لأنه مؤمن بهذا اللون. فكفانا تكاذبًا. كفانا بيع مصطلحات لا تمتّ إلى الواقع بصلة.
أنا إعلامية غير حيادية وأفتخر. أحمل قضية ولذلك امتهنت الصحافة. وفي حرب كتلك التي نعيشها، والتي تُخاض بالإعلام بشكل أساسي، لا يمكننا أن نلقي السلاح. سلاح الكلمة والصوت والصورة من أقوى الاسلحة. بها تُخاض المعارك الكبرى. إنها حروب الجيل الجديد، وفي تلك الحروب، لسنا قدّيسين ولا مستسلمين. جنّدوا الكثير من الإعلاميين، فلماذا لا نكون نحن جنودًا على المقلب الآخر؟ جنودًا على جبهة إعلام القضية أو فلنسمّها جبهة “الإعلام المقاوم “؟
نقاوم ماذا؟ نقاوم التضليل والكذب. نقاوم الشيطنة والتشويه والتشويش. نقاوم قلب الحقائق وقلب المفاهيم والمقاييس. نقاوم الهيلا هو. نقاوم جعل الأبيض أسودَ والأسود أبيضَ. نقاوم المال المشبوه. نقاوم محاولات تدمير بلداننا والقضاء على نقاط قوّتها. نقاوم محاولات نهب ثرواتنا وأخذنا إلى مكان لا يشبهنا.
ولا بدّ من تمتين جبهة الإعلام المقاوم، ولذلك سبل كثيرة. فلنعتمد أساليبهم ونلجأ إلى طرقهم ولو لم نكن نمتلك قدراتهم المالية. فلتكن لنا لقاءات واجتماعات. فلنخضع لتدريبات. فلنجمع العقول الإعلامية المقاومة تحت مظلة واحدة. فلنوحّد المصطلحات. فلنصطَد أصحاب المواهب والأخلاق من الشباب. فلنقل الاشياء كما هي في الغرف المغلقة لنخرج بخلاصات واحدة. فلتكن لنا توجيهات نعمّمها على بعضنا البعض ونلتزم بسقفها في حواراتنا ومقابلاتنا ومقالاتنا. فلنعقد حلقات عمل ونقاش لا على مستوى لبنان فقط بل أيضًا على مستوى دول المشرق. فلنمتّن علاقاتنا ببعضنا بعضًا ولتشمل إعلاميين من بلدنا ومن سوريا والعراق والأردن وفلسطين ودول أخرى. فلتكن لنا مؤتمرات في مقابل مؤامراتهم. فلنبتعد عن الخوف والخجل. مواقفنا مشرّفة فلماذا نستحي بها؟ فلتكن لنا أكاديمية أو أكثر للإعلاميين الجدد وللمخضرمين معًا. فلنطرح هواجسنا بشكل دائم على الطاولة، ولنطرح مشاكلنا والحلول بوعي وجرأة. فلنكثر إنتاجاتنا الإعلامية من أفلام مشتركة قصيرة وطويلة وبرامج مشتركة من خارج العلب التقليدية. فلنرتقِ بطريقة مقارباتنا للقضايا الكبرى. فلنسافر ولنتعرف على التقنيات الجديدة ونتبادل الخبرات.
مخطئ من يعتقد أن علينا فقط أن نربح المعركة السياسية أو العسكرية أو الاقتصادية. علينا قبل كل شيء أن نربح المعركة الإعلامية لأنها تعني كسب الرأي العام الذي نحتاج إليه لنفشّل كل مشاريعهم.
قضايانا التي ممنوع أن نكون رماديين فيها كثيرة. لا يمكننا أن نكون في محل وسط في موضوع الفساد، ولا في قضية العمالة، ولا في مسائل التوطين وتغيير وجه لبنان، ولا في مَن هو العدو ومن هو الصديق، ولا في مَن هو الارهابي ومَن هو المقاوِم، ولا في أين تكمن مصلحة لبنان، ولا في ملف الإنقاذ والاقتصاد المنتج، ولا في التدقيق الجنائي واستعادة أموال الناس، ولا في القوانين المرمية بلا إقرار في مجلس النواب، ولا في الشأن الاجتماعي. ولا يجوز أن نضيّع البوصلة. نعرف من آذانا ومن دمّرنا ونعرف من يمكن أن يكون الخلاص.
ممنوع أن يلهونا باتهاماتهم وبسخافاتهم. ممنوع أن يأخذونا إلى حيث هم يريدون. ممنوع أن نسمح بأن يضعوا العتمة على عيون المواطنين. فلنجلب الجميع إلى ملعبنا نحن.
لقد خلقوا غرفًا سوداء يحيكون فيها مشاريعهم ومصطلحاتهم ومقارباتهم. هي موجودة في الخارج. يأخذون إليها بعض الشاطرين ويغسلون أدمغتهم بالمال والمواد اللازمة ليغسلوا بدورهم عقول الناس. يدفعون الملايين وهذا موثّق. فلماذا لا ندفع فقط قدراتنا لكي نربح المعركة؟
ليس صعبًا الانتصار. الإرادة موجودة وكذلك الإيمان والقدرات الإبداعية. فلنقرّشها إذًا وليكن لنا شرف المواجهة، تلك التي تجعلنا أرقامًا صعبة في المعادلات. استطاعوا أخذ الناس إلى مكان آخر بين الرمادية والسواد، أما نحن فخيارنا ألوان الحياة الحقيقية لا تلك الوهمية، ألوان العز والكرامة، تلك التي ترفض الارتهان والتبعية، تلك التي ترفض الإذعان. نحن أقلام حبر أما هم فأقلام رصاص. الحبر يبقى أما الرصاص فلو أصاب أحيانًا بمقتل إلا أنه سيبهت بعد قليل. سيختفي. يمكنهم أن يكذبوا على بعض الناس كل الوقت، وعلى كل الناس بعض الوقت، ولكننا نحن -الإعلاميين المقاومين- لن نسمح لهم بأن يكذبوا على كل الناس كل الوقت.
*نقيبة العاملين في الإعلام المرئي والمسموع في لبنان
النص يعبر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة عن رأي الموقع
التعليقات مغلقة.