إنها دولة الأحلام المتنعّمة بالأمن والأمان، والمصدّرة للسلام العالمي العابر للقارّات، المحترِمة لحقوق الإنسان والحيوان والداعية إلى تكريس الحريّة كنظام حكم لإيصال صوت الناس عاليًا، حيث يقبع تمثال حريتها الأبيض. هذا ما يقوله الإعلام ومعظم العالم عن الولايات المتحدة الأميركية. لكن، قلّبوا صفحاتها عبر التاريخ، منذ اكتشافها على يد كريستوفر كولومبوس وحتى اليوم، واجمعوا إنجازاتها الإنسانية في داخل حدودها وعبر امتداد القارّات السبع، لتكتشفوا الحقيقة.
في التالي نماذج عن الريادة الأميركية في خمسة عناوين أساسية لطالما شكّلت أسس البروباغندا القائلة بتفوّق النموذج الأميركي في العالم.
أزمة كوفيد-19
لنبدأ من النهاية، فقد أبى الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب أن يعترف بخطأ ارتكبه في لحظة جنون -وهي لحظات لطالما رافقته خلال تولّيه الرئاسة- حين ساق وراءه ملايين الأميركيين إلى التهلكة إمّا موتًا أو معاناةً بسبب كوفيد-19. لقد صرّحت إدارته في بداية الأزمة العالمية لكوفيد أن هذا الوباء لا يزيد خطورةً عن الانفلونزا الذي انتشر سابقًا، وقالت إنه وبمجرّد أن يصبح الجو دافئًا، سيختفي المرض “بأُعجوبة”. لكن هذا قد كلّف الأميركيين الكثير، فبعد إعراض السلطة عن إغلاق البلد، تسجّل أميركا اليوم 55.5 مليون إصابة بالفيروس مع 825 ألف حالة وفاة كان أكثرهم من المسنّين والفقراء والمشرّدين الذين ما كانوا أولوية بالنسبة لإدارة بلادهم، بل كان أصحاب المال الأثرياء وأصحاب البشرة البيضاء يحتلّون المراتب الأولى والثانية والثالثة من دون أيّ منافسة شرسة في الحصول على احتياجاتهم الطبية وكذلك التطعيم، في حين جاهرت الدولة بقدرتها على سدّ حاجتها من المستلزمات الطبية “وزيادة”.
ثقة الشعب والانتخابات مدفوعة الثمن
بعد أن أُنفق في انتخابات الرئاسة الأميركية ما يقارب 6.6 مليار دولار أميركي كحملات انتخابية، وفوز الديمقراطيين في الكونغرس، ورفض الجمهوريين للنتائج الانتخابية ونزول مناصريهم إلى الساحات للاحتجاج، سجّلت أميركا تراجعًا واضحًا وصاخبًا في الثقة الشعبية بالدولة وانتهاكًا واضحًا لحقوق الإنسان. فقد نزل الآلاف من المناصرين لترامب وتورّطوا في أعمال شغب عنيفة، وهاجموا ضباطًا بأنابيب معدنية ومهيجات كيميائية وأسلحة أخرى، فأصيب حوالي 50 ضابط شرطة بالإضافة إلى اعتقال حوالي 1000 شخص، الأمر الذي دعا مفوضة الأمم المتحدة السامية لحقوق الإنسان إلى إطلاق بيان قالت فيه إن الهجوم على مبنى الكونغرس الأميركي أظهر بجلاء التأثير المدمر للتشويه المستمر والمتعمد للحقائق والتحريض على العنف والكراهية من قبل قادة سياسيين.
أما بالنسبة للثقة الشعبية، وبحسب أرقام أصدرتها مؤسسة “جالوب” يوم 8 تشرين الأول عام 2020، فإن 19 بالمئة فقط من الأميركيين قالوا إنهم “واثقون للغاية” بشأن دقة الانتخابات الرئاسية، وهو أدنى مستوى تسجله جالوب في منحنى استطلاعها الذي تجريه منذ عام 2004. وبحسب مقال نشرته صحيفة “ذا وول ستريت جورنال” يوم 9 تشرين الثاني عام 2020، فإن انتخابات عام 2020 يمكن رؤيتها على أنها تتويج لفترة عقدين من تراجع الإيمان بالبنية الأساس للديمقراطية. ونتيجةً لما حصل في الداخل الأميركي، عبّر بعض السياسيين والمتخصصين بالشأن الأميركي الداخلي بالقول إن هذا الصراع الانتخابي على اختلافه لا يقتصر على نزاهة سير العملية الانتخابية فقط، بل إنّه يشكّل ضربةً قويّة للثقة الداخلية كون الطرفين لا يريان نفسيهما خصمين أو متنافسين في السياسة، بل أحدهما يرى الآخر خطرًا على عقائده وقناعاته وأفكاره التي يرفض الاستغناء عنها. وأفاد تقرير نشره “مركز بيو للبحوث” في 13 تشربن الثاني عام 2020، أن الولايات المتحدة تمثل استثناء في طبيعة انقسامها السياسي، فثمة خلاف تتنامى حدته بين الديمقراطيين والجمهوريين بشأن الاقتصاد والعدالة العرقية والتغير المناخي وإنفاذ القانون والمشاركة الدولية وقائمة طويلة من القضايا الأخرى.
التمييز العنصري ضد الأقليات
“إنه لشعور حقيقي بالوحدة أن تكون آسيويًّا في الولايات المتحدة خلال الجائحة المستشرية”. هذا ما نشرته صحيفة نيويورك تايمز عام 2021 حول الوضع المأساوي الذي يعيشه الآسيويون وأصحاب البشرة الملوّنة في أميركا. ففي حين يجتاح العالم فيروس جديد فتك بالجميع، شاء القدر أن تكون نسب الإصابة الأعلى لأصحاب البشرات الملوّنة في أميركا المعروفة بعنصريتها الخفية، أكثر من أعداد المصابين البيض. ورغم أنه من المعيب في القرن الواحد والعشرين أن نتحدث باختلاف العرق واللون والأصل، إلّا أنه لا بد لنا من عرض ما تتكبده أميركا، طائر السلام العالمي، بحق هؤلاء. لقد كشف معدّل الإصابة ومعدل الوفاة بكوفيد-19 في الولايات المتحدة عن اختلافات عرقية كبيرة، حيث كان معدل الإصابة، ودخول المستشفى، وعدد الوفيات بين الأميركيين الأفارقة ثلاثة أضعاف وخمسة أضعاف وضعفي المعدل بين نظرائهم البيض على الترتيب، وفق ما ذكر تقرير قدمته مجموعة خبراء العمل بشأن المنحدرين من أصل أفريقي إلى مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة في 21 آب عام 2020. أما بالنسبة لاعتداءات الشرطة ورجال الأمن على هؤلاء فالأمر لا يحتاج إلى توضيح أصلًا؛ فقد كشف تقرير لمكتب التحقيقات الفيدرالي صدر في عام 2020 أن 57.6 بالمئة من 8302 جريمة كراهية بدافع التحيز الفردي سجلتها وكالات إنفاذ القانون في عام 2019، كانت بدافع التحيز للعرق/الإثنية/السلالة. ومن بين تلك الجرائم، كان 48.4 بالمئة منها مدفوعًا بالتحيز المناهض للسود أو الأميركيين الأفارقة و15.8 بالمئة منها نابعًا من التحيز المناهض للبيض و14.1 بالمئة منها مصنفًا بأنه تحيز مناهض للاتينيين و4.3 بالمئة ناتجًا عن التحيز المناوئ للآسيويين. وفي حين يشكل الأميركيون الأفارقة 13 بالمئة من تعداد سكان الولايات المتحدة، لكنهم يمثلون 28 بالمئة من أولئك الذين قُتلوا على يد الشرطة. وأحدنا لا ينسى طبعًا كي قضى جورج فلويد، وهو أميركي من أصول أفريقية، بعد أن جثا ضابط شرطة أبيض على عنقه بوحشية، ما فجر موجة غضب على مستوى البلاد، واندلعت احتجاجات واسعة من أجل العدالة العرقية في 50 ولاية حيث قمعت الحكومة الأميركية المتظاهرين بالقوة، وأُلقي القبض على أكثر من 10 آلاف شخص، وتعرض عدد كبير من الصحفيين للاعتداء والتوقيف من دون سبب.
الاضطرابات الاجتماعية والتزعزع الأمني
لم تخلُ أميركا يومًا من الجرائم وحوادث السرقة وإطلاق النار والاعتداءات المختلفة؛ فالدولة التي ترسل جنودها إلى الشرق الأوسط لضمان أمن وأمان المنطقة، كما يصرّح سياسيوها، غير قادرة فعليًّا على السيطرة على أمنها في الداخل، أمّا إن استطاعت ذلك فبعد انتهاكات كثيرة لحقوق الإنسان التي تدافع عنها أميركا في جميع المحافل الدولية إلّا في الشرق الأوسط وفي مناطق أصحاب اللّون المختلف. ووفقًا لتقرير الجريمة الموحد الأولي لمكتب التحقيقات الفيدرالي الصادر في أيلول عام 2020، فإنه خلال النصف الأول من العام الماضي، ارتفع عدد جرائم القتل والقتل غير العمد بواقع 14.8 بالمئة على أساس سنوي، مع تسجيل المدن التي يتراوح عدد قاطنيها بين 250 ألفًا و500 ألف نسمة، زيادة بنسبة 26 بالمئة. وكذلك سجلت مدينة نيويورك ارتفاعًا بنسبة 23 بالمئة في جرائم القتل، بينما شهدت لوس أنجلوس زيادة بواقع 14 بالمئة في جرائم القتل. وبحسب تقارير مكتب التحقيقات الفيدرالي الصادرة في عام 2020، فإن ما يقدر بـ 1.2 مليون جريمة عنف وقعت في الولايات المتحدة في عام 2019، بينها 16425 جريمة قتل و139815 جريمة اغتصاب و267988 عملية سطو و821182 اعتداءً خطيرًا، وهو ما يترجم إلى خمس جرائم قتل وأكثر من 40 جريمة اغتصاب و80 عملية سطو و250 اعتداء خطيرا لكل 100 ألف من السكان. وذكرت صحيفة “يو.إس.أيه توداي” على موقعها الإلكتروني يوم 18 ديسمبر عام 2020، أنه فيما يتعلق بجرائم القتل بالأسلحة، فإن الولايات المتحدة سجلت على نحو تاريخي معدلًا يزيد بواقع 25 ضعفًا عن الدول الغنية الأخرى. وبحسب بيانات من أرشيف العنف المسلح، فإن أكثر من 41500 شخص قتلوا جراء العنف المسلح في أرجاء البلاد خلال عام 2020.
افتعال الحروب في الشرق الأوسط
تحتل “إسرائيل”، دولة الاحتلال الصهيونية المدعومة من أميركا، بل طفلها المدلل في الشرق الأوسط، فلسطين منذ عام 1984 حيث يُحرَم الفلسطينيون من بيوتهم وأرضهم وتمارس عليهم أبشع طرق التعذيب والإقصاء حيث يقبع معظمهم في سجون الاحتلال أو يعاني الآخرون منهم في قطاع غزّة حيث يعيش مليونا فلسطيني، حصارًا معلنًا بالقصف والجوع والتنكيل. لكن أميركا، حمامة السلام، لم تصدر يومًا بيانًا، ولو كاذبًا، منذ سبعين سنة وحتى اليوم، تدين فيه هذه الاعتداءات على الفلسطينيين في أرضهم. كيف وهي السبب الأساس لهذا الاحتلال؟
منذ انطلاق احتجاجات الربيع العربي عام 2011 في مختلف الدول العربية وحتى اليوم، تسعى أميركا بشكل واضح لإشعال الحروب في الشرق الأوسط ودعم مختلف الجماعات الإرهابية بالمال والسلاح والعسكر لغايات سياسية واستعمارية. وقد ظهر هذا جليًّا في مختلف الدول العربية. بدأت أميركا بالعراق حيث احتلته عام 2003 لأسباب تستدعي فرض الأمن والأمان كما قالت ولحماية العراقيين. لكنها سارعت إلى صناعة الجماعات الإرهابية ودعمها حتى قضى في العراق مئات آلاف الشهداء من العسكريين والمدنيين، حيث صرّحت جهة أميركية مسؤولة عن سقوط عشرات آلاف الأفغان والعراقيين عن طريق الخطأ على يد الأميركيين من دون أي صرخة تدين انتهاك حقوق الإنسان. وكذلك خلّفت وراءها الدمار في سوريا حيث ما تزال الحرب مستمرة منذ 11 سنة. وهذا كله يجري جهارًا حيث يصرّح وزير الخارجية القطري حمد بن حسن أن الحرب على سوريا يديرها السفير الأميركي في سوريا إذ يتولى تسلم الأموال وتوزيعها والأدوار معًا. هذا بالإضافة إلى قانون قيصر الذي تمارس فيه أميركا حصارًا على سوريا فتمنع أي دولة من الاستثمار أو القيام بأي عمل تجاري فيها.
رغم كل هذا، تحاول أميركا في المحافل الدولية مع أتباعها من العرب وغيرهم تقديم نفسها كنموذج في الحرية والديمقراطية واحترام الإنسان رغم كل ما يراه العالم من طغيان وظلم ودمار حلّ على يديها. ولا يزال الكثيرون مصدقين هذا الوجه الملائكي الذي يدعو كذبًا باسم رسالات السماء. لن نفيض بالشرح أكثر، لأننا إن أردنا عرض المجازر الأميركية في عالمنا العربي بل العالم أجمع، لاستغرقنا الأيام. إنها “منارة الديمقراطية” لكن العوجاء و”الدولة فوق تلة” حيث تقف متفرّجة على معاناة العالم أجمع، بل إنها المشاركة بشكل علني في زيادة معاناة الشعوب، لكنها لا تتردد للحظة عن حضور أي مؤتمرٍ دوليًّ للمناداة بحقوق الإنسان زيفًا. أميركا هي العدو الحقيقي، والمستكبر الحقيقي، والظالم والمستبد الحقيقي. أميركا رأس العدوان وأساس الاحتلال والطغيان. أميركا عدو، فاتّخذوها عدوًّا.
النص يعبر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة عن رأي الموقع
التعليقات مغلقة.