بيروت، تاريخٌ طويلٌ كتبته أقلام الكتاب والشعراء وصدحت به أقوى الحناجر العربية أغانيَ مخلدة.
بيروت الفائضة أدبًا وثقافة وشعرًا وسياسة وفنونًا والأهم منها كلها حريةً شكلت الحاضنة لكل فعل وكل نشاط وكل أثر. هذه الحرية التي كانت غائبة في معظم الدول العربية، كانت تلقى صدىً لها في بيروت ومتّكأً يضمن للأفكار أن تعبر بأمان وسلام، فلا قيود خلف الباب تنتظر ولا حسابات سياسية.
قد يُمنع كتاب في العراق أو الخليج أو أية دولة عربية لأهداف سياسية، لكنك بالتأكيد تجده في بيروت. وبيروت كانت من البداية المقترح العربي الأول لعقد أي مؤتمر يعارض سياسة الحكم في أي بلد عربي، لأن بيروت تحمي وتحتضن وتحترم الحريات، وكانت أيقونة الدفاع عن حرية التعبير في وقت غاب هذا الحق في معظم العواصم العربية.
يتغنى الشاعر العراقي الكبير الراحل محمد مهدي الجواهري بجمال وسحر لبنان في قصائد عديدة وببيروت التي جعل من ابنتها اسمًا لقصيدة. وقد شارك الجواهري في مؤتمر المعارضة العراقية عام ١٩٩١ وبحضور ستة أحزاب عراقية معارضة لنظام صدام حسين. ولو أن الجواهري يسمع عن قرار وزير الداخلية اللبناني بسام مولوي بترحيل المعارضين البحرنيين اليوم لنظم قصيدة رثاء في حرية التعبير وفي بيروت أخت بغداد الحبيبة!
ولو أن نزار قباني، الذي عاش في بيروت ولقبها بست الدنيا، علم أن وزيرًا لبنانيًا كان سببًا في أزمة دبلوماسية لأنه أعطى رأيًا في حرب ظالمةٍ عبثية، ثم استقال بإرادة فرنسية وبحملة إعلامية لبنانية تدافع عن قمع الحرية، لبدل التاء المبسوطة في بيروت بتاءٍ مربوطة!
ولكانت نجمة محمود درويش في الإمارات والبحرين والسعودية بدلًا من لبنان، إذ أصبحت رهينة لمزاج الأمراء بعد أن مزقوا قضية فلسطين، وها هم يُخرجون كل يوم أزمة في لبنان عند سماع أي صوت يذكرهم بجرائمهم وقد عبثوا بأمنه فما استفاقوا إلا على هزائم متتالية.
بعد شل السياحة في لبنان من العام 2011 ومنع مواطنيهم من السفر إلى لبنان، وبعد أن دمر المرفأ وازداد الحصار، لم يبق في لبنان ما يزعجهم -غير السلاح الذي يقلق إسرائيل- إلا صوت الحرية والتعبير عن الرأي الذي لطالما كان لصيقًا باسم بيروت، بيروت الثائرة، الحرة، ذات التاريخ الذي خلده الشعراء -كما ذكرنا- وجعل منها البيت الثاني لكل عربي عاش ويعيش في بيروت، وقد تجذر حبها في قلبه كأي لبناني.
بيروت المؤتمرات، والندوات، والمسارح والمعارض الفنية، بيروت معرض الكتاب والثقافة، بيروت ملتقى كل الفنانين والأدباء من عرب وأجانب، هذه الصورة تتراجع اليوم بفعل فاعل وكأن هناك ثأرًا قديمًا بينها وبين الممالك.
لا يمكن أن تصبح إرادة بيروت محكومة بإرادة سلطة سياسية تقدم كل يوم القرابين على طريق إرضاء حكام الخليج، بالأمس السعودية، واليوم البحرين، ولا ندري من يكون في مقبل الأيام. الشعب اللبناني على الرغم من انشغاله بهموم معيشته في ظل أزمة اقتصادية ظالمة، لا يرتضي لنفسه أن يكون رهينة العقد النرجسية عند حكام دول الخليج مقابل أن يُبقوا لنا سفيرٍا أو علاقة دبلوماسية.
والعتب على جمعيات المجتمع المدني والأحزاب السياسية والمثقفين والحركات التحررية كيف يمكن أن تسكت عن قرارٍ كهذا وهو سابقة في تاريخ لبنان، وإن نفذ سيكرس تبعية تقوم على أساس قمع الحريات وتقييد الرأي، والأخطر هو سلخ بيروت عن تاريخها وإلباسها قناعًا يحجب عنها كل شعاع معرفة أو ثقافة أو حرية.
النص يعبر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة عن رأي الموقع
التعليقات مغلقة.