لا يزال التوتر بين روسيا والغرب يتصاعد يومًا بعد يوم حيث حذر حلف شمال الأطلسي «الناتو» والولايات المتحدة من أن «روسيا ستدفع ثمنًا باهظًا لأي تدخل عسكري جديد في أوكرانيا». جاء ذلك بينما عقد الحلف العسكري الغربي اجتماعًا لمناقشة نوايا موسكو إزاء حشد قوات على حدود الجمهورية السوفييتية السابقة.
في أول تصريح له بعد لقاء مع نظيره الأميركي جو بايدن عبر تقنية الفيديو، اعتبر الرئيس الروسي فلاديمير بوتين أن روسيا لديها الحقّ في الدفاع عن أمنها. ودعا بوتين نظيره الأميركي جو بايدن لعدم تحميل روسيا المسؤولية عن التصعيد حول أوكرانيا، مشيرًا إلى أن “الناتو” هو الذي يزيد من قدراته قرب الحدود الروسية.
وقال بوتين في مؤتمر صحفي مع رئيس الوزراء اليوناني كيرياكوس ميتسوتاكيس إن “روسيا تنتهج سياسة خارجية سلمية، لكن لديها الحقّ في الدفاع عن أمنها”. واعتبر أن ترك حلف شمال الأطلسي يقترب من حدودها بدون الرد سيكون “تقاعسا إجراميا”، إلا أنه رأى أن محادثاته مع بايدن كانت “بناءة”.
لم يعد ملف الأزمة بين روسيا وأوكرانيا، إلى جدول الأعمال الدولي فحسب، بل أصبح الموضوع الأول في التجاذب السياسي، والتصريحات والتصريحات المضادة بين المسؤولين في موسكو وواشنطن، وبينهما كييف.
منذ انهيار الاتحاد السوفييتي السابق كانت أوكرانيا محور الصراع الجيوسياسي بين الولايات المتحدة وروسيا، وقال زبيغنيو بريجنسكي مستشار الأمن القومي الأمريكي الأسبق في كتابه «رقعة الشطرنج الكبرى» إن هيمنة روسيا على أوكرانيا كفيلة بعودة الاتحاد السوفييتي السابق مرة أخرى، لذلك كانت أوكرانيا ساحة للصراعات والانقسامات والثورات منذ عام 2004.
ويعود الخلاف الرئيسي هناك إلى فريقين، الأول يرى مستقبل بلاده في تعميق العلاقات مع روسيا، والثاني يعتقد أن الأفضل هو الالتحاق بالاتحاد الأوروبي والناتو، وهو ما يهدد بحرب كبيرة بين واشنطن وموسكو. وقال بوتين خلال جلسة لمجلس حقوق الإنسان لدى الرئاسة الروسية (12/9)، إنه “يجب القول إن رهاب الروس هو أول خطوة نحو الإبادة الجماعية. أما ما يجري في دونباس الآن فنحن نرى ذلك ونعرفه جيدًا. وهذا يشبه الإبادة الجماعية كثيرًا”.
ويرى عضو المجلس الروسي للعلاقات الدولية، روسلان بوخوف، أن سبب تعزيز روسيا لوجودها العسكري على الحدود مع أوكرانيا، جاء ردًا على ما وصفها بـ «العدوانية» المتزايدة بشكل حاد لأوكرانيا، تجاه جمهوريتي دونتسك ولوغانسك، لا سيما بعد انسحاب كييف الأحادي الجانب، من اتفاقية وقف إطلاق النار، التي تم تبنيها العام الماضي، وتركيز قواتها العسكرية على خطوط التماس مع الجمهوريتين.
في السياق، قال رئيس هيئة الأركان الروسي، فاليري غيراسيموف، إن الثالوث النووي يضمن ردع العدو المحتمل، وأكد أن أكثر من 95% من منصات إطلاق الصواريخ الاستراتيجية النووية جاهزة للاستخدام القتالي. وقال غيراسيموف (2021/12/9) أمام الملحقين العسكريين لدول أجنبية: “تحتفظ القوات النووية الاستراتيجية الأرضية، بأكثر من 95 % من منصات الإطلاق في حالة استعداد دائم للاستخدام القتالي”. وأوضح أن قوات الصواريخ الاستراتيجية تواصل إعادة التسلح بمنظومات “يارس”، ويتم وضع منصات إطلاق صواريخ “أفانغارد” هي الأخرى في حالة جهوزية للاستخدام القتالي.
وأضاف إن “غواصة نووية أخرى مزودة بصواريخ باليستية من نوع بولافا، ستدخل قريبا في التشكيل القتالي للقوات النووية الاستراتيجية البحرية”. كذلك أشار الى أن “تحديث الطائرات الحاملة للصواريخ الاستراتيجية للقوات النووية الاستراتيجية مستمر، بما يضمن استخدامها لصواريخ حديثة عالية الدقة بعيدة المدى”.
وأشارت الخارجية الروسية إلى أن تصرفات الغرب في الأزمة تثير مخاطر قد تصل إلى نشوب نزاع واسع النطاق في أوروبا. واتهمت كييف روسيا برفض عدد من مقترحاتها لحل الأزمة تشمل تبادل الأسرى وتوسيع الاتصالات المشتركة. وقال المتحدث باسم الرئاسة الروسية ديمتري بيسكوف إن حادثة تحرك سفينة البحرية الأوكرانية “دونباس” باتجاه مضيق كيرت -الذي يفصل روسيا عن شبه جزيرة القرم- استفزازية و”لها مدلولات خطرة”، و”يمكن أن تؤدي إلى عواقب وخيمة جدا”.
“حليف أم عضو أم شريك؟ معضلة الناتو القديمة بشأن أوكرانيا”
أشارت صحيفة نيويورك تايمز في تقرير إلى أن حلف شمال الأطلسي كان قد وعد أوكرانيا بعضوية كاملة في 2008، الأمر الذي اعتبرته روسيا تهديدًا محتملًا لحدودها وتعديًا على قلب دائرة نفوذها. وأشار مراسل الشؤون الدبلوماسية في الصحيفة ستيفن إرلانجر إلى أن هذه المعضلة ظلت تتشكل منذ سنوات عديدة، وأن الحلف نفسه هو الذي ساعد في تشكيلها. ففي عام 2008 وعد الحلف -الذي أنشئ بقيادة الولايات المتحدة لمواجهة الاتحاد السوفييتي- بالعضوية لجمهوريتين سوفييتين سابقتين وهما أوكرانيا وجورجيا، لكن دون تحديد متى ولا كيف.
ولفت الكاتب إلى أنه منذ البداية شككت بعض دول الحلف فيما إذا كان عرض العضوية خطوة حكيمة، وليس من الواضح ما إذا كان سيفي بهذا الوعد، ولكن كما هو متوقع فقد غذى نزاعًا دائمًا مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين.
وكان بايدن قد حذر بوتين، من أن بلاده تُحضّر لعقوبات قاسية لم تُفرَض في عام 2014 بعد استعادة موسكو لجزيرة القرم. وهي عقوبات ستؤثّر، بحسب ما سُرّب، على «الدائرة المقرّبة» من بوتين، وستمنع مبادلة الروبل بالدولار واليورو والجنيه، وقد تطاول أكبر البنوك الروسية وصندوق الاستثمار الروسي. أمّا العقوبة الأقسى، والتي شبّهتها «بلومبرغ» بـ«القنبلة النووية»، فتتمثّل في فصْل روسيا عن نظام الدفع الدولي «SWIFT»، فيما تُناقش الإدارة الأميركية تقييد قدرة المستثمرين على شراء ديون الحكومة الروسية في السوق الثانوية، وحرمان شركات الطاقة الروسية من الوصول إليها. وإزاء تلك التهديدات، دعا بوتين نظيره الأميركي، إلى «عدم إلقاء المسؤولية على عاتق روسيا»، متّهمًا كييف بالوقوف خلف التصعيد الحاصل أخيرًا عبر اعتمادها «سلوكًا مدمّرًا»، معتبرًا أنها تسعى لـ«تفكيك اتفاقات مينسك» المبرَمة عام 2015، والتي يُفترض أن تضع حدًّا للنزاع بين القوات الأوكرانية والانفصاليين الموالين لروسيا في شرق أوكرانيا.
وكان الرئيس الأميركي جو بايدن قد اتصل هاتفيًا بالرئيس الأوكراني وتسعة من قادة حلفاء الناتو في أوروبا الشرقية، لتأكيد دعم الولايات المتحدة إذا “هاجمت” روسيا أوكرانيا، فضلًا عن فرض عقوبات “اقتصادية صارمة”. وكشف ضابط البحرية الأميركية، برايان هارينغتون، أخيرًا، أن الغرب يسعى إلى نزع زمام السيطرة على البحر الأسود من روسيا، حيث قال في مقال صحفي إن “المناورات العسكرية المنتظمة للدول الغربية ستجرد روسيا من السيطرة على البحر الأسود”.
إلا أن روسيا لم تقف موقف المتفرج اللامبالي حيال نشاطات الغرب العسكرية في البحر الأسود، بل أقدمت على تعزيز أسطولها هناك. فمثلًا، ظهرت هناك غواصات من طراز “فارشافيانكا” و”بيرانيا”، وهي قطع بحرية قادرة على إحباط خطط الغرب لتحقيق الهيمنة على البحر الأسود. وأشار إلى ذلك المعلق العسكري الروسي ألكسندر أرتامونوف في الحديث لموقع “أوكرانيا. رو” الإخباري.
ومن جانبه أشار المعلق العسكري الروسي العقيد المتقاعد فيكتور ليتوفكين، إلى أن روسيا لا تخاف من الأساطيل الأميركية. صحيح أن عدد القطع البحرية الأميركية يفوق عدد القطع البحرية الروسية، ولا يضم الأسطول الروسي سوى حاملة طائرات واحدة في حين تملك الولايات المتحدة 11 مجموعة سفن حربية تقودها حاملات الطائرات، ولكن روسيا تملك أسلحة مضادة للطائرات والصواريخ الهجومية لا تملك الولايات المتحدة مثيلًا لها.
وألمح المعلق العسكري إلى احتمال أن “تقدم روسيا على خطوة حاسمة في حال تمادى الغرب في تحقيق خططه”، حين ذكر في تصريح لموقع “كا – بوليتيكا” أن “بوتين قال أخيرًا: لو أغرقنا مدمرتهم فإن الحرب العالمية الثالثة لن تبدأ”.
من جهة أخرى، واصل المسؤولون الأوكرانيون تحركاتهم ولقاءاتهم بهدف بحث التوتر مع روسيا عند الجهة الشرقية من البلاد، خصوصًا في ظل الحديث عن حشود وقوات روسية تتجمع بالقرب من الحدود بين البلدين. وقالت وزارة الداخلية الأوكرانية إن الوزير دينيس موناستيرسكي شدد، خلال اجتماعه مع سفيرة الولايات المتحدة الأميركية في أوكرانيا، كريستينا كفين، على قضية تعزيز الأمن على حدود أوكرانيا، واصفًا إياها بأنها قضية ملحة وتحتاج إلى مزيد من الاهتمام.
من جهتها، قالت كفين إن بلادها مستعدة لمواصلة دعم وزارة الداخلية الأوكرانية في حال حدوث تصعيد على طول حدود البلاد. وجدد وزير الدفاع الأميركي لويد أوستن التزام بلاده بمساعدة أوكرانيا في الدفاع عن أراضيها، حال تعرضها لغزو روسي. وأبدى الوزير الأميركي قلقه بشأن حشد روسيا لقواتها وعتادها العسكري عند الحدود مع أوكرانيا. وقال أوستن “ما زلنا نركز على هذا الأمر، فقد غزت روسيا أوكرانيا من قبل. عدد القوات الموجودة في المنطقة الحدودية والمعلومات التي تصلنا تثير القلق”.
وتابع “نحن ملتزمون بمساعدة أوكرانيا في الدفاع عن سيادة أراضيها. الرئيس بايدن تحدث عن هذا الأمر بالأمس. نحن قلقون بشأن هذا الموضوع وسنظل نركز عليه”.
في عام 2008، قامت روسيا بعمل عسكري في جورجيا بعدما أرسل رئيسها آنذاك ميخائيل ساكاشفيلي قوات لمحاربة الانفصاليين. وفي نهاية نوفمبر/تشرين الثاني الماضي، قارن جهاز الاستخبارات الخارجية الروسي الوضع الحالي في أوكرانيا بالوضع في جورجيا عام 2008، ودعا الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي إلى عدم ارتكاب الخطأ نفسه الذي ارتكبه ساكاشفيلي، مذكرًا إياه بأن ذلك كلفه غاليًا.
ووسط حديث عن احتمال اندلاع حرب كبرى بين روسيا وأوكرانيا، وتفاقم وشيك للنزاع في منطقة دونباس على خلفية تقارير عن تمركز القوات الروسية بالقرب من الحدود الأوكرانية، وفشل مجموعة الاتصال الثلاثية ورباعية نورماندي في إحراز تقدم في المفاوضات بشأن تسوية سلمية للنزاع، بين التهديدات بفرض عقوبات جديدة على روسيا والتمنيات بضرورة التواصل المباشر بين البلدين لحل النزاعات القائمة في أوروبا، لم تسفر المفاوضات بين وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف ونظيره الأميركي أنتوني بلينكن على هامش مؤتمر الأمن والتعاون في أوروبا، الذي عقد في ستوكهولم، عن تحقيق أي اختراق يذكر من أجل خفض مستوى التوتر العالي بين موسكو والغرب.
وأشار محلل الشؤون العسكرية إيفان كونوفالوف إلى أن الولايات المتحدة وحلف شمال الأطلسي (ناتو) رفعا مستويات التأهب لقواتهما المسلحة من الدرجة 5 إلى 4 في 30 نوفمبر/تشرين الثاني المنصرم، بذريعة الوضع المتوتر على الحدود الأوكرانية.
وأوضح كونوفالوف أن المستوى الخامس من الاستعداد العسكري الأميركي يتوافق مع أوقات السلم، لكن واشنطن –برأيه- لا تتعامل مع المرحلة الراهنة بأنها كذلك، لذا رفعت منسوب الاستنفار العسكري إلى المستوى الرابع، الذي تصبح فيه جميع الأجهزة الخاصة -بما في ذلك المخابرات العسكرية- أكثر نشاطًا، كما كانت عليه الحال خلال الحرب الباردة بين حلفي وارسو والناتو.
وأضاف أن العلاقات بين أميركا وروسيا بسبب الأزمة مع كييف تراجعت تقريبًا إلى زمن أزمة الصواريخ الكوبية، بسبب سياسة الولايات المتحدة التي بدأت في السنوات الأخيرة ببناء قواتها المسلحة وفق نموذج يحاكي ظروف الحرب الباردة.
في المقابل، يؤكد مدير البرامج في مركز فالداي للأبحاث إيفان تيموفيف وجود مؤشرات ترى فيها واشنطن وحلفاؤها مقدمة لعمل عسكري، على قاعدة أن استخدام القوات المسلحة الروسية ينتهي عادة بعواقب سياسية.
لا يرجح الخبير الروسي سيناريو الحرب لأن مثل هذا الصراع العسكري من غير المرجح أن ينتهي باتفاق واضح، كما أن الانتصار على القوات المسلحة الأوكرانية لن يؤدي إلى سلام سريع؛ فقد تتطور الحرب إلى مواجهة طويلة، خاصة إذا ظل جزء من البلاد (على سبيل المثال أوكرانيا الغربية) تحت سيطرة القوات المسلحة الأوكرانية.
يؤكد المحلل السياسي، غيفورك ميرازيان، أن موسكو لن تنجر لعمل غير مدروس. فمن وجهة نظر الغرب، هي التي ستكون مذنبة بالصراع الذي قد يتسبب بأزمة لاجئين، فضلًا عن الأسلحة التي ستبدأ بالتسرب عبر الحدود، وتفعيل المجرمين والهجمات الإرهابية، فضلًا عن تعرضها لضغوط الحظر والعقوبات السياسية والاقتصادية. ويلفت إلى أن روسيا تورد الغاز إلى أوروبا عبر أوكرانيا، على الأقل حتى نهاية عام 2024. وفي حال تضررت خطوط الأنابيب، بفعل الاشتباكات بين القوات الأوكرانية من جهة، والقوات التابعة لجهوريتي لوغانسك ودونتسك من جهة أخرى، فستكون عقود الغاز في خطر. ويختم بأنه على الرغم من حقيقة أن الكثيرين سيتفهّمون أن تدخل القوات الروسية في هذه الحالة سيكون ضروريًا، إلا أن موسكو ستواجه بعقوبات جديدة، واتهامات بالعدوانية، وزيادة في قوات حلف الناتو على حدودها، ونشر أسلحة نووية في بولندا.
النص يعبر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة عن رأي الموقع
التعليقات مغلقة.