على مدى الخمس عشرة سنة الماضية، وبعدما سقطت نظرية تصدير الحرية الأميركية عبر صواريخ التوماهوك من أفغانستان إلى بغداد، وسقطت على أبواب دمشق وبيروت، قرر الشيطان الأكبر اعتماد أسلوب الثورات الملونة و”الانهيار التحفيزي” في البلدان والمجتمعات التي ترفع شعار المواجهة للسياسات الأميركية في العالم وفي منطقتنا بالخصوص.
وتحت شعار حراك الشعوب التي “تريد الحياة ” نفذ أكبر انقلاب، ومحاولة انقلاب امتدادًا من أوكرانيا ووصولًا إلى السودان مرورًا بسوريا ولبنان، واستخدم الأميركيون رافعات المجتمع المدني وبعض جثث الأحزاب البائدة في تسعير التحركات في الشوارع لتنفيذ سياساتهم الانقلابية مع الاستعانة بالضخ المالي الضخم عبر أنابيب دول البترول.
والمفارقة التي ليست فارقة أنه حيث فشلت الأموال، استعان بأسلوب “الأفغان العرب” الذي ابتدعه في أفغانستان وعممه لاحقًا في اتجاه كافة البلدان التي فشلت فيها منظماته المدنية، وأحيانًا كثيرة استخدم الأسلوبين معًا في الرقص على دماء الشعوب.
إن هدف الأميركي المعلن جعل الكيان الصهيوني الجنة الآمنة في محيط متفجر، أو محيط مطبع، وإطالة عمره قدر المستطاع في المرحلة القادمة من سحب قواته العسكرية ودعمه العسكري لهذا الكيان.
الحسابات البسيطة في منجزات الثورات المدعومة من المركزي الأميركي هي أنها حاولت جعل القضية الفلسطينية في خانة بعيدة عن هذه الثورات تحت عنوان “أن على كل شعب أن يهتم بشؤونه الداخلية ويترك بقية الشعوب لشؤونها” والتدرج في الخطاب الشوارعي وإغراقه بمصطلح “الحياد”.
إن آخر نموذج من هذه الثورات ما رأيناه في السودان، فبعدما كانت هذه الدولة ترفع شعار “اللاءات الثلاث”، وبعدما كانت ممرًّا لتسليح الشعب الفلسطيني، فإنها بفضل الإنتاج الثوري الأميركي تحولت إلى دولة تنادي بالتطبيع مع العدو الصهيوني، وتحولت إلى دولة لا تُرفع فيها يد إلا بإذن الأميركي.
في كل الأحوال، إن السياسات الأميركية التي سارت على نهج الثورات الملونة هي من أصعب الأمور على الأميركي شخصيًا، فهذا يعكس فشل الهيمنة العسكرية والنهج الذي اعتُمد من قبل، فهو على الأرض يتعامل مع أطياف مختلفة من المجتمعات، وهو يستخدمها آنيًا لتحقيق مراده، واعتماده الأساسي على منظمات لا عقيدة لها سوى المال، ومع التجربة أصبح الجميع يدرك أن مفعول المال آنيّ ولا يؤدي إلى نتيجة يعتد بها سوى ازدياد حالات الفساد التي تدّعي هذه المنظمات محاربتها.
لقد أصبحت الصورة واضحة جدًا؛ من لبنان إلى السودان يضع الأميركي خياراته لمجمل هذه الشعوب ويخيرنا بين الفوضى أو التطبيع وهو يدرك جيدًا أن الوقت لم يعد لصالحه، وأن نجاح هذه الثورات مرتبط بسرعة نجاحها، وما تبيّن أنها أبطأ بكثير من عداده الزمني، ونموذج الاعتماد على جيوش على شاكلة الجيش الأفغاني فشل، ونموذج الاعتماد على جيوش المنظمات المدنية على الشاكلة اللبنانية فشل، والدورات الفكرية للشعوب جعلتها في حالة ارتفاع الوعي لتكسر هذين النموذجين، ودورة السطوة الأميركية أصبحت في الحضيض.
لذلك، فإن نموذج الصدمة والرعب العسكري قد انتهت مفاعيله، واليوم نرى سقوط المفعول الثاني من نموذج الذعر الشعبي و” الانهيار التحفيزي”، وإن ما يحصل هو إشعار عالي الوضوح بأن القبضة الأميركية على الشعوب أصبحت قاب قوسين أو أدنى من التراخي.
النص يعبر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة عن رأي الموقع
التعليقات مغلقة.