منذ فجر الإسلام والى يومنا هذا لم تزل اشكالية خلافة خاتم الانبياء بكل تفاصيلها ومآسيها حاضرةً في وجدان الأمة، ولم تزل الأحداث، التي أحاطت بها والمواقف التي تخللتها والقرارات التي واكبتها، موضع نقاش وتساؤل بين النخب والدارسين وعامة الناس، من مؤيدي نظرية احقية الولاية والخلافة، لباب علم رسول الله وحامل لوائه علي بن ابي طالب، وفي مقدمة هذه النقاشات والتساؤلات، يتكرر السؤال حول السبب الكامن خلف سكوت الامام علي عن حقه بالتصدي لخلافة منصوص له عليها، من قبَل اخيه وحبيبه الرسول الأعظم، والسبب الذي دفع بالامام الى اختيار قرار الانكفاء وعدم لبس لامة الحرب في وجه من حاصر الدار وهدد بضعة رسوله بالحرق، والتساؤل ذاته يتكرر، عن السبب الذي دفع الامام الى إعادة السيف الى غمده في مواجهته لشيطان البادية “معاوية بن ابي سفيان”، الداهية الذي استولى زورًا على الخلافة.
والجواب عن كل هذه الإشكاليات والتساؤلات، كان دائمًا ولا يزل حتى يومنا هذا، يتمحور حول امر اساسي ومبدئي، اراد الامام عليه السلام، من خلاله، ان يرسم للأجيال القادمة عبر العصور دروسًا استراتيجية مفادها أن الحفاظ على الاسلام اهم من الحفاظ على الموقع ولو كان حقًا مسطورًا، وأن الحفاظ على الرسالة هو القضية الاساس، ولو تطلب ذلك تقديم تضحيات جسام.
لقد ارسى الامام للامة، من خلال تنازله عن المطالبة بحقه بتولي شوؤن المسلمين والدفاع عن القضية الاهم، قواعد القيادة الواعية، ومبادئ الرؤى الإستراتيجية، بكل ما تتطلبه من طاقة على الصبر الكبير، ومن قدرة على تحمل أثقال التشكيك والتكفير، وتلقي سهام الغدر، وافتراءات الخوارج والمارقين.
ان مدرسة علي عليه السلام بينت للأجيال كيف يجب على الذين يتصدون لأحوال وهموم الامة ويخوضون الحروب المصيرية، ان يتعاملوا مع الأذى الآتي من ذوي القربى، ومع مكائد اهل النفاق.
لقد أكدت وتؤكد مجريات احداث التاريخ، والوقائع التي نتجت عن تلك الأحداث، أن ما كان قد بدا للبعض، من قبول الامام علي عليه السلام، بخلافة فلان او علان، وصبره على الاذى هنا وهناك، على انه دليل ضعف او خوف، هو استنتاج خاطئ وفهم ملتبس وقشوريّ، لموضوع اكبر من أن يُحصر في دائرة الضعف او الخوف، بل على العكس إن تفسيره في مكان آخر تمامًا، وأن الانسان في بعض الاحيان يضطر الى اتخاذ مواقف قد تُفسر على غير مضمونها، وتُفهم على عكس المراد منها، فكيف بموقف اتخذه امام الموحدين وخليفة رسول رب العالمين، وهو الحكيم الاكبر والولي الاعظم الذي يجيد تشخيص الاهم من المهم ويقدم مصلحة سلامة الامة والرسالة على أحقية المنصب والموقع؟ وكيف، وهو الامام الذي افنى كل عمره في التضحية والفداء وخوض المصاعب، يصعب على هكذا امام، وفي سبيل الحفاظ على الحاضر والمستقبل، أن يتخذ موقفًا، قد يُفهم من ظاهره على أنه تراجع او انهزام امام بعض أهل النفاق؟! بالتأكيد، كلا، لقد علّمنا علي بن ابي طالب، أنه في بعض الاحيان، وجراء بعض الظروف والاسباب، اتخاذ قرار معين لا يعني، بالضرورة، الموافقة على ما كان، او الرضا بما يكون، ولا يمكن اعتباره ايضًا دليلًا على الرضوخ لشروط من هنا او شروط من هناك، بل ان الامر في مكان آخر، وأن المواقف الاستراتيجية تتقدم في معظم الاحيان على المواقف التكتيكية، كما أن مواجهة اخطار اكبر واشمل تحتم على اصحاب الوعي والحكمة، تجاوز المطبات والأفخاخ التي يراد من خلالها دفع الامة والقيادة الى الانجرار نحو مواجهات جانبية، بهدف حرفها عن القضايا الاساسية والمصيرية؛ فكما أن استئصال الاورام الخبيثة يبدأ بخطوات علاج تمهيدية قبل الوصول الى مرحلة الكي النهائي، فهكذا يكون التصرف في مختلف الامور التي تواجهنا في الحياة. وهذه القاعدة تصلح وعلى وجه الخصوص لكل ما يتعلق بالقضايا السياسية، كتلك التي نواكبها على الساحة اللبنانية في هذه الايام، وهكذا يجب ان تكون مقاربتنا للموقف من إشكالية القضاء في قضية انفجار المرفأ،، فمواجهة القاضي وعدم الموافقة على شكل التحقيق لا يعنيان بالضرورة رفض اتهام مَن اتهم او الدفاع عن اشخاص محددين من المشكوك، حتى لا نقول من المحسوم، أن نزاهتهم يشوبها الكثير من الشوائب، كما ان تلقي سهام الغدر وخناجر الطعن، من قبل بعض الصعاليك المشوشة عقولهم، المغرر بالبسطاء منهم والمؤكدة عمالة بعضهم الاخر، المدفوعين الى ساحة المواجهة الانتحارية حالمين بتحقيق انتصارات وهمية، على ايقاع زعامات وشخصيات تسعى لبناء عزها السلطوي عبر التحريض من الاسياد، بهدف جر الشرفاء الى معارك جانبية، لا يعني على الاطلاق ضعف المستهدَف أو خوفه.
ان كل الذي حصل ويحصل على ارض الواقع، من تعدٍّ على الناس والتجني على المخلصين، حاملي الهموم الكبرى والمدافعين عن القضية الاساس، لا يجب ان يدفع اهل الثقة والوعي الى الابتعاد عن الهدف الاساس وعن مركز المشكلة، لأن القصة في مكان آخر، والمواقف المأخوذة في مواجهة قضية المرفأ، هي لدرء قضية اكبر، ومفسدة اعظم يراد من خلالها تحقيق ما عجزت عن تحقيقه حروب مدمرة وفتن جوالة وتآمر مستمر، فلا يعتقدنّ احد أن ما قامت به مجموعة او جماعة من القتلة ارباب الغدر ممتهني العمالة، قادرة على اخافة او إضعاف أو إخضاع، مَن طبع قلادة الموت على صدره، وخط شارات النصر على جبينه. لا يتخيلنّ هذا الاحد أنه قادر، من خلال خوض المعارك الوهمية واعتلاء سطوح الابنية وقتل العزّل بدم بارد، وحرمان اطفال خمسة من حنان امهم المقتولة ظلمًا، على ثني ارادة حزب ومِن خلفه شعب وأمة، استطاعوا تغيير مجريات التاريخ وقلب معادلات الاقليم، وعلى الموتورين الانتباه الى كل خطوة يقومون بها، لأن لكظم الغيظ سقوفًا، وأن للصبر على الاذى حدودًا، وأنه عندما يحين الوقت وتتاح الظروف، ويدخل الامر في طور الجد، حينها تخرج من اغمادها السيوف، ويطل القائد المسدَّد، حفيد امام الصبر، خرّيج مدرسة الوعي، السيد الذي اختبر، كجده علي المرتضى، سهام الغدر، وتحمل لأجل المصلحة الكبرى ما لا يحتمل، وعض على الجرح مرارًا وتكرارًا، فيعتلي صهوة جواد القيادة، ويفك اسر السواعد السمراء ويعطي بإصبعه الاشارة، عندها، يصبح خبر الخوارج في خبر كان، وخبر المارقين في مقبرة النسيان،* يومئذ يُبْلِسُ الْمُجْرِمُونَ، *ويقول الكافر يا ليتني كنت ترابًا *، *وَإِنْ عُدتُّمْ عُدْنَا ۘ وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيرًا.
“اسألوا مجرب ولا تسألوا حكيم”.
النص يعبر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة عن رأي الموقع
التعليقات مغلقة.