يُعرف أهل الحبّ بصدق الولاية. وهل هناك ما هو أصدق من “أمرنا أمر القيادة” في ساعة الجرح العظيم، وفي مشهد الدم المظلوم والمسفوك غدرًا وعدوانًا؟
ما حدث يوم الخميس ليس تفصيلًا في مجريات الأحداث، ليس ساعة تخلٍّ حفرت في القلوب جراحًا طائشة. ما حدث كان مجزرة بكلّ المقاييس وجريمة خُطّط لتنفيذها بالتواطؤ مع أدوات وجهات مختلفة، وكان يومًا كلّ ما فيه يخبر أن ما قبله ليس كما بعده.
وإن كان ذهول أهل الحبّ في الضاحية حيال ما يجري عليهم بعمق الجرح الذي عاشوا ساعاته تحت أصوات الرصاص الغادر، فذهول العالم حيال التزامهم بعدم رد صاع الغدر بألف صاع انتقام كان على عمق لا يعرف غوره إلّا العارفون بمعنى الولاية، وبصدق القول حين تتردّد في أرجاء المدينة الأبيّة صيحة “لبّيك…”.
لملمت الضاحية جرحها الممتد في الزمان والعابر لكلّ مكان يحيا فيه أهل الشرف. رفعت جثامين الشهداء وأوجاع الجرحى. نادت بعلوّ جرحها أن “أمرنا أمر القيادة”، وإن كان ثمّة من استعجل الردّ أو طالب بانتقام فوري، أو تململ من الهدوء الذي تلا المجزرة، فإن أحدًا لم يتخطّ حكمة القيادة، والكلّ انضوى تحت راية الصبر الحكيم.
في الضاحية العابرة للبلاد حبًّا، ذخّر الناس دمعهم رصاصًا، وخزّنوا الحزن في صناديق الغضب. تركوا اختلافاتهم اليومية جانبًا والتفوا على جرحهم ليشكّلوا صورة عن المثل الذي لا يُقرأ إلّا بصوت الجدّات الحكيمات: لا يحنّ على العود سوى قشره.
عاشوا غربتهم في البلد وكأن لم يبذلوا فيه كلّ ما ملكوا ليصير له في ترقيم الدول الصعبة اسم متقدّم متوّج بالنصر، وكأن هذا التراب المرويّ بدمهم تحريرًا ونصرًا وحماية ليس معنيًا بجراحهم.
تحلقوا حول دمهم، حول مظلوميتهم، لكن تحلقهم ما كان ضعفًا ولا عجزًا، بل تعاليًا عن السقوط في حفرة تشبه من حفروها، ويقينًا، يقينًا تامًا أن حقّهم لن يهدر، وأن قيادتهم القوية الصابرة لن تتأخر عن ثأر مستحق، وبالسبل التي تراها الأنسب.
لم يكن خيارًا سهلًا أن يلتزم أهل النخوة والغيرة الهدوء في لحظة تقطّع أوصال قلوبهم لولا الثقة المطلقة بأن قيادتهم هي السقف الأعلى لكلّ غيرة ونخوة؛ فهم يأتمنونها على دمائهم وبيوتهم وأحبّتهم، ويعرفون أنّ كلّ ما فيهم مُصان بحكمة هذه القيادة وقوّتها. يعلم الجميع أيّ خامة من القوّة يحتاج المرء ليكظم غيظًا بحجم الغيظ الذي قصم القلوب الصادقة، ولا سيّما إن كان قويًا بالحقّ وقادرًا على الثأر في ذات الساعة، ويعلم الجميع أيضًا أن هذا الجمع من الكاظمين الغيظ، مهما جُرّح أو غضب، يُبقي دمه وغضبه ذخيرة بأمر القيادة.
لقد أثبت أهل الحق مرة جديدة أنّهم المكوّن الأنقى والأحرص على سلم البلاد وأهلها، لكن ذلك لا يعني التساهل في الأمر؛ فالدم المراق الناطق باسم مَن ظلمه: جعجع الأداة والمشروع والمهزوم جيلًا بعد جيل، والجبان الذي يظهر تارّة مبديًا نشوة القاتل، وطورًا يختبىء في جحر يذكّره بزنزانة عاش فيها ووجب لو قضى بقية حياته في داخلها.
غريمنا أمام أعيننا، وأمرنا أمر القيادة.
جرحنا نازف لا يلتئم، وأمرنا أمر القيادة.
غضبنا حريق لا يخبو ولا يهدأ، وأمرنا أمر القيادة.
حزننا سيّل قلوبنا دمعًا عند قبور أحبتنا، وأمرنا أمر القيادة.
لماذا؟ لأننا قوم صادقون ولَّيْنا أمرنا لقيادة صادقة مؤتمنة على ثأرنا وجرحنا وغضبنا وحزننا، ولأننا قوم مؤمنون بأن تحت عباءة القيادة بقي دمنا مصانًا يوم أهدر التكفير كلّ دم، وبقيت أعراضنا محفوظة يوم انتهك الإرهاب كلّ الأعراض، وبقيت كراماتنا عالية يوم بيعت بالرخيص الكرامات، ولأن بعين اليقين نرى ثأرنا عند أسياد هذه الأدوات الرخيصة، وعند كلّ من اشترك وخطّط ونفّذ وعرف بذلك ورضي به.
النص يعبر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة عن رأي الموقع
التعليقات مغلقة.