المقاومة ونقيضها في السياسة اللبنانية

احصل على تحديثات في الوقت الفعلي مباشرة على جهازك ، اشترك الآن.

ثمة من يؤكد بالاستناد إلى الفوضى والهيجان السياسي الذي يجتاح لبنان منذ العام ٢٠٠٥ أن الطبقة السياسية القابضة على قرار الدولة الفعلي وعلى التاريخ السياسي اللبناني المعاصر لن تتغير بطفرة الـ NGO S الثورية الحالية أو خزعبلات بعض القوى العقائدية التي ضاعت في أضابير الزمان منذ توقف الشتاء في عواصم عرابيها الايديولوجيين، بل من الممكن أن تتغير بطفرة ثورية حقيقية تختلف بشكل جذري ومبدئي عن الطفرات الهجينة والمخلقة في مختبرات السفارات أو ما وراء البحار.

فهذه الدولة اللبنانية العميقة التي تتناسل في مفاصل البلاد منذ عهد السلطان سليم الأول في القرن السادس عشر، والتي خرجت على شكل متصرفيتين في القرن التاسع عشر ثم اعادت انتاج نفسها عام ١٩٤٣ على شكل ثنائية في ميثاق (وطني) غير مكتمل أبقى الاستعمار الأجنبي على شكل امتيازات لمجموعة من عائلات الاقطاع السياسي ومجموعة من الكارتلات الاقتصادية اللتين شكلتا منذ استقلال البلاد تحالفًا مصلحيًا وعملتا كنخبة منتفعة ومتنفذة تحكمت بالبلد وحولته بالسياسات التخطيطية القاصرة إلى بلد ريعي يعيش على صناعة الخدمات ويعطي ظهره لكل الطاقات الكامنة في ثرواته الزراعية والمائية والعلمية وحتى النفطية (أولى الدراسات التي أكدت وجود النفط في لبنان ظهرت عام ١٩٥١ وتم تجاهلها ودفنها في الأدراج) .

هذه الاستراتيجيات القاصرة التي ركزت الاقتصاد والانماء والتعليم كله في العاصمة بيروت وبعض المناطق ذات اللون الطائفي الواحد وهمشت ٩٢٪ من مدنه الأخرى وأريافه جعلت التهميش والحرمان عامًّا ووضعت مستقبل البلاد أمام دورة صراعات اجتماعية تتجدد على شكل نزاعات مسلحة كل ١٠-٢٠ عامًا حتى وصلت عام ١٩٧٥ إلى الذروة فاندلعت حرب أهلية استمرت ١٥ عامًا دون أن ينتج عنها حسم يسمح بالتغيير واستعادة التوازن.

فقد جاء التغيير المنشود بعد انتهاء الحرب الأهلية عام 1990 ناقصًا بل متعارضًا مع المأمول، وأنتجت انتخابات 1992فسيفساء سياسية اختلط فيها الاقطاع السياسي بالكارتيلات الاقتصادية بالأحزاب (التي كان 80 % منها قد تنكّب سلاحه واحتفظ بعقله الميليشيوي قبل سنتين من الانتخابات)، مع تسجيل سبق لتحالف الاقطاع ورأس المال والميليشيات الذي حصل على كتلة كبيرة في برلمان 1992 مكنته من الاستفادة من المؤثرات الاقليمية والدولية لتثبيت موقع وسلطان أصحاب رأس المال .

ولولا الفارق الوحيد الذي أدخل المقاومة (الوليدة حديثًا عام 1982 والتي لم تتلوث يدها بالحرب الأهلية) بصفة متواضعة الى البرلمان لما أمكننا الاقتناع بأي تغيير في حينه، لأن انتخابات 1992 أعادت انتاج الطقم السياسي ذاته بشكل مقنع ومطعمًا بميليشيات الحرب الأهلية، وأعادت خلق الظروف الموضوعية ذاتها لتكرار نفس الخطأ السابق الذي ارتكب منذ الاستقلال. فترجيح تحالف الاقطاع السياسي وكارتيل رأس المال وحملة السلاح تسبب بإدخال البلاد مجددًا في دوامة من الفوضى الناتجة عن السياسات الجديدة الخاطئة للبناء والانماء المربوطة بوعود “السلام مع العدو” وأطلق زمام الوحش الاحتكاري الاقتصادي وحوّل مؤسسات الدولة كلها الى فروع خدمية لشركة قابضة أو مؤسسة عملاقة متعددة الجنسيات لا يملك معظم الشعب اللبناني فيها إلا حق حساب الديون التي كانت توضع على كاهله حتى تحولت البلاد بعد ١٥ عامًا إلى دولة شبه فاشلة وأخذت بالانحدار الشديد بعدها لـ 5 سنوات عجاف أخرى دافعة معظم اللبنانيين إلى الهوة التي لا ناقة لهم فيها ولا جمل حتى أوصلتنا إلى ما نحن عليه الآن.

هذا الشكل من الإدارة تلازم مع التجاهل المزمن لواقع البلد المحتل من قبل العدو الصهيوني وفرض على قوى التغيير (الناهضة والمفترضة) والتي تركزت في الجنوب والبقاع وضاحية بيروت الجنوبية أن تتولى بنفسها عملية الدفاع لطرد الاحتلال في فترة زمنية طويلة ومكلفة فاقت الـ٢٢ عامًا (من العام 1978 حتى العام 2000) وفرضت على هذه القوى وبيئتها الحاضنة أن تستنزف ثروتها البشرية والمادية لتأمين استحقاقات المقاومة ولبناء مجتمع مقاوم يسمح بإنجاز مهمة التحرير.

ورغم كل محاولات الطبقة الحاكمة محاصرة المقاومة منذ العام 1990 وسعي هذه السلطات لسحب سلاحها واستبدال منظومة التحرير (بالقوة العسكرية) بمنظومة تفاوض (ديبلوماسية ضعيفة وقاصرة وهزيلة) إلا أن إنجاز التحرير عام ٢٠٠٠ وتثبيته عام ٢٠٠٦ وفرض الردع على المحتل سمح للمقاومة بإنجاز المهمة والشروع بالانخراط في العملية السياسية بشكل متدرج والحفاظ على دورها الدفاعي كحامية للبلد (بالأمر الواقع) لأسباب عديدة أهمها إخفاق الطبقة السياسية المتعمد وعن سبق الاصرار في وضع أسس جدية للاستراتيجية الدفاعية عن لبنان.

هذا الفشل في التخطيط والادارة الاستراتيجية التي اتبعتها السلطة الحاكمة آنذاك ظهر سريعًا عند بدء الأحداث في سوريا عام 2011 بتجاهل معظم الطبقة اللبنانية الحاكمة مهمة الدفاع مجددًا وعدم اكتراثها بكل التهديدات الداهمة وتمسكها بما يسمى بالنأي بالنفس وغضها الطرف عن الخطر الوجودي المتمثل بأطماع الجماعات التكفيرية المسلحة ورعاتها الاقليميين والدوليين بإقامة إمارة تكفيرية في المناطق الشرقية والشمالية اللبنانية. والخطير أن بعض أطراف الحكم اللبناني الميليشيوية إما غطى على التكفيريين بالانخراط في المحرقة أو تواطأ معهم بالعون المباشر (تحت ذريعة دعم ” الثورة “) لأهداف مذهبية وتكتيكية.

عندها اضطرت المقاومة للعودة إلى مهمتها بقرار ذاتي لدرء هذا التهديد الوجودي الذي ظهر على شكل اجتياح لتسونامي تكفيري كاد يهدد مصير البلاد عام ٢٠١٣، وأظهرت الوقائع ذلك على مر السنوات الخمس التالية ليتحقق التحرير الثاني ويهزَم التكفيريون شر هزيمة.

مرة أخرى نجحت المقاومة في أداء مهمتها وإبعاد الخطر الداهم عن البلاد، ولكنها بعد انجاز المهمة مباشرة وزوال التهديد اصطدمت من جديد ولا زالت بحجم تبعية وضحالة وسفالة معظم الطبقة السياسية اللبنانية وانكشافها على الخارج وظهر المستوى الكبير لانغماس أطراف لبنانية رئيسية بارتباطات وترتيبات مريبة مع الخارج كلها تصب في هدف إيقاع أكبر أو أي أذى ممكن بالمقاومة وتعبيد الطريق أمام التطبيع مع إسرائيل.

في الخلاصة:
1- يمكن الجزم بأن هذه القوى التي ما زالت تعيد وتنتج نفسها منذ أيام السلطنة العثمانية هي التي تسببت منذ استقلال لبنان بضعف مناعته السياسية وتشريع ابوابه للقوى الدولية ونفوذها.

2- ويمكن الجزم أيضًا أن هذه القوى لم ولن ترضى بحقيقة أن لبنان (بوجود قوة إقليمية وازنة هي المقاومة) يمكنه أن يعيد تماسكه الداخلي وصياغة مستقبله السياسي وفرض حضوره باستقلالية وبقدرات ذاتية.

وما يؤكد ذلك هو ما خرج عن المحاولات المتكررة والمستميتة لقوى الدولة العميقة والمافيات لإعادة انتاج نفسها مجددًا بطرق شتى وتجميع قواها وصياغة تحالفاتها الانتخابية إن كان في العام 2018 أو في العام 2022 القادم دون فائدة.

وقد بات ذلك واضحًا بعد ظهور الخارطة العامة الانتخابية لكل الأطراف اللبنانية في انتخابات عام 2018 (*) والتي لم يكتب لها التوفيق والنجاح كما أراد المعلم الخارجي، ومن المتوقع أن يتكرر ذلك أيضًا في انتخابات 2022.

إن أغلب المتصدين والمتشاطرين يتحرك بكلمة سر خارجية هدفها النيل من هذه المقاومة واعادة انتاج لبنان الضعيف الدمية الذي:

  • تحركه “العصا والجزرة” كما تتفاخر بذلك السفيرة الاميركية الحالية في لبنان.
  • تديره مجموعة الخدم والتابعين.

ويظهر من حجم الرؤوس الحامية واتساع التكتلات المضادة مستوى الاستهداف لخط المقاومة حيث تطل القوى الخارجية الدولية والاقليمية لتحقيق هدف مزمن واحد وهو ضرب عمود المقاومة الفقري وتطويعها وتدجينها.

وهنا يمكننا التأكيد كنتيجة لما سلف أن المقاومة كانت حكيمة جدًا باحتفاظها بسلاحها وكل عناصر قوتها والذهاب إلى المريخ للدفاع عن لبنان وعن ذاك السلاح الذي تشهره بوجه العدو الأوحد للبنان، لوجود دلائل عديدة قد تكون بعقل صانع القرار في المقاومة: “باستحالة تأثير أي ترتيبات على مستوى النظام ومنظومة الحكم في إغراء الأطراف التي تشكل “الدولة اللبنانية العميقة” بالدخول في اصلاح وتطوير سياسي حقيقي محمي بقوة رادعة يؤمنها سلاح المقاومة”.

فالأصل لدى منظومة الدولة العميقة اللبنانية هو القبض على ناصية الحكم من أجل حماية الامتيازات والمصالح الذاتية. أما الأصل لدى المقاومة فهو حماية ومناعة البلاد لخدمة تعزيز شراكة كاملة تحفظ كل اللبنانيين وآمالهم وتطلعاتهم لمستقبل واعد بين الأمم. ولن يختلط الزيت بالماء.

(*) والتي من المتوقع أن تتجدد بشراسة وباستخدام كل وأقذر الأدوات في انتخابات عام 2022 البرلمانية.

النص يعبر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة عن رأي الموقع

التعليقات مغلقة.

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على ذلك ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. قبول قراءة المزيد