حين يبكي التاريخ ويبتسم المستقبل: مرثيّة السيّد حسن نصر الله

76

د. أكرم شمص – خاص الناشر |

تطلّ علينا ذكرى شهادتك، يا سيّدي، لا “كروحٍ تمشي على الأرض”، بل كشمسٍ انكسرت في أرواحنا بعدما أضاءت لنا الدرب في عتمة هذا الشرق المثقل بالجراح. لم تكن قائدًا عابرًا في زمنٍ عابر، بل كنتَ فصلًا خالدًا في كتاب الوجود، كتبه الله بمداد العزّة، لتكون الحرف الأصدق في قصيدة المقاومة، والنغمة الأعلى في نشيد الكرامة.

أيّها السيّد، أيّها الحاضر فينا أكثر ممّا كنت حاضرًا بيننا… لقد حسبوا أنّ الأجساد حين تتفتّت تحت القنابل تفنى، ولم يدركوا أنّ الدم حين يسيل يصير نهرًا يشقّ طريقه نحو الخلود، وأنّ القائد حين يرتقي شهيدًا يولد في ألف قلبٍ، ويكبر في ألف وجدانٍ، وتشتعل به ألفُ رايةٍ جديدة.

لقد رحلت، لكنّك تركت في الأرض عهدًا لا ينكسر، ووصايا لا تُنسى، ورجالًا لا يعرفون للراية سقوطًا ولا للاستسلام معنى. تركت الجنوب حصنًا، ولبنان قامةً، وفلسطين وعدًا لا يموت. تركت فينا صبرك الذي كان كالجبل، وإيمانك الذي كان كالنور، وابتسامتك التي كانت تُعلّمنا أنّ القوّة ليست في السلاح وحده، بل في اليقين بأنّ الدم يهزم السيف مهما طال الليل.

يا سيّدنا الاسمى… إنّ الحبر ليجفّ أمام الدم، والكلمات لتتضاءل أمام صمتك الأخير، كأنّك أردت أن تقول لنا إنّ القادة الكبار لا يرحلون، بل يسكنون في أرواح شعوبهم، ويتحوّلون إلى أنشودةٍ تتردّد في الخطب، وإلى صلاةٍ تُرفع في المساجد، وإلى دمعةٍ حارّة في عيون الأمهات اللواتي يودّعن أبناءهنّ إلى الجبهات كما لو أنّهنّ يودّعنهم إلى الحياة ذاتها.

نم قرير العين يا سيّدنا، فدمك صار وعدًا، ورايتك صارت عهدًا، واسمك صار نشيدًا للأرض التي تعرف أنّ الفجر يولد من الدم، وأنّ الشهداء وحدهم هم الذين يفتحون أبواب القدس، ويجعلون الشمس تشرق على وطنٍ لا ينكسر.

في ذكراك السنوية، يا سيدنا الأسمى، أيّها القائد الذي عاش عمره للعهد وللمقاومة وللأرض والإنسان… نقف اليوم والوجع ما زال ينهش قلوبنا، لكنّنا نعلم أنّ دمك لم يكن دمعةً على وجنة الحزن، بل كان سيلًا من العزائم يروي الأرض، ويكتب للأمة سطور مجدٍ لا تُمحى، ويمنح المقاومة عمرًا يتجدّد مع كل فجرٍ جديد.

سلامٌ عليك يوم وُلدت قائدًا، ويوم رحلت شهيدًا، ويوم تُبعث حيًّا مع الأنبياء والصدّيقين والشهداء والصالحين. سلامٌ عليك في كلّ خطبةٍ تهدر بها حناجر المقاومين في ساحات القتال، حين تتحوّل أصواتهم إلى صدى لقلبك الذي خفق يومًا بالعهد، وإلى نارٍ في وجه المحتلّ لا تخبو. وتهدر حناجرهم لأنّها تحمل غضب الأرض وكرامة الدماء، لأنّها تصرخ في وجه الطغاة أنّ دمك لم يُسكت المقاومة، بل منحها لسانًا أفصح، وصوتًا أعلى، ورسالةً أوضح.
وسلامٌ عليك في كلّ فجرٍ يتفتّح فيه لبنان على دماء الشهداء، حين تشرق الشمس على قباب القرى ومساجدها، كأنّها تقرأ الفاتحة على أرواحهم وتمنح الأرض قسمًا جديدًا بأنّ دربهم لن ينقطع. في كلّ صباحٍ يرفع فيه المقاومون الراية على التلال، وفي كلّ مساءٍ تتردّد فيه وصاياك في الخنادق، ويبقى اسمك حاضرًا، وقصّتك تتردّد كالنشيد، وروحك ترفرف فوق الساحات كأنّك لم تغب لحظة.

لقد أرادوا باغتيالك أن ينهوا الحكاية، فإذا بالحكاية تبدأ من جديد، وإذا بالدم يكتب على جدران التاريخ أنّ القادة الكبار لا يغيبون، بل يتحوّلون إلى نجومٍ تهتدي بها الأمم، وإلى جذورٍ تضرب في الأرض كلّما حاول الطغاة اقتلاعها. واليوم، كما الأمس، يبقى صوتك مدوّيًا في الساحات: “هيهات منّا الذلّة”.

النص يعبر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة عن رأي الموقع

التعليقات مغلقة.