مُشاهدات في ضوءِ “الرّوشة”..

11

على الكورنيش البحريّ حيث تجمهر أوّل الواصلين إلى إحياء ذكرى سيّد شهداء الأمّة، اختلطت دموع الوجد والعزّة بصيحات الحبّ والوفاء، وإن كانت مشهدية الضوء على الصخرة قد رسمت صورة السيّدين الشهيدين السيد حسن نصر الله وصفيّه الهاشمي قد أشعلت القلوب واستمطرت الدّمع من أعين المشتاقين، فمشهدية الحبّ على وجوه الحاضرين وفي كلماتهم لم تكن أقلّ سطوعًا.

على أحد المقاعد جلست سيّدة تحمل طفلًا رضيعًا حديث الولادة، تحدّق في البحر بعينين دامعتين، وبين الحين والآخر تهمس لطفلها بصوت رقيق: “شايف السيد حسن ما أحلاه يا ماما؟ السيد استشهد بس نحنا بدنا نضل عنهجو سامع؟” كأنّها أرادت أن تُسقي ابنها هذا الضوء وهذا الحبّ، وتعلّمه قبل أن يتمّ شهره الأوّل معنى أن يكون قائدك الشهيد قدوتك، ومعنى الانتماء إلى نهج لا ينتهي باستشهاد القائد.

على بُعد أمتار منها، سيّدة سبعينية، تمسح دموعها المتواصلة بمنديلها الأسود، وما إن سُمع صوت السيّد مناديًا يا أشرف الناس”، حتى جلست أرضًا ورفعت رأسها للسماء “دخيل هالصوت يا سِيّد.. اشتقنا لهالصوت يا سِيّد”. تقترب منها صبيّة عشرينية وتحاول إعانتها على النهوض، تقول لها “السيد بدو يانا نضل قوايا وواقفين يا حجّة”، فتنهض مسرعة “بإذن الله قوايا وواقفين بس فراقو صعب”. تبكيان معًا. الأولى أمّ تبكي ابنها، فالسيّد كان ابن جميع الأمّهات وفلذة قلوبهن، والثانية ابنة تبكي أباها، فالسيّد كان الأبّ لكلّ بنات بيوت الأمّة.

حين أنشد المحتشدون مرثية “وداعًا أبانا”، استحال الجمع من كلّ الأعمار أطفالًا يتامى في وداعِ الأبّ الأحنّ، ومع “والصّبر أصبح يا لثارات الحسن” صار الصوت المجرّح بالفقد سيفًا حادًا يُعدّ الثأرَ ويحفظ العهد والوصيّ، وصارت الوجوه ترجمة حيّة لـ”إنّا جنودٌ طوع أمرك واليمين، يا مَن على الأرواح ما زلتَ الأمين”.

هنا، صبيّة تحمل علم الحزب السوريّ القوميّ الاجتماعيّ وصورة السيّد وتهتف “إنّا على العهد”. عيناها تحكيان حكاية وحدة الدم في درب المقاومة، وعلى مقربة منها راهبة بالثوب المريميّ تبتسم لصورة السيد حسن في يد طفلة جالسة على كتف أبيها وتقول لها بعينين مغرورقتين بالدّمع: “انتبهي توقعي.. انتبهي توقع صورة السيد”. وهنا، سيّدة لهجتها بيروتية أصيلة تطلب من أخ مرّ بقربها أن يتنحى قليلًا كي ترى بوضوح صورة وجه السيّد. وما إن رسم الضوء صورة السيّد متوسّطًا رئيسي الحكومة رفيق الحريري وابنه سعد، حتى ابتسمت بحبّ وقالت بصوت عال “الشيخ رفيق بيحبك يا سيد.. وسعد كمان”. هنا أيضًا، مجموعة شبّان أتوا من الجنوب خصيصًا للمشاركة في فعالية إضاءة صخرة الروشة. يتحادثون عن ترتيبات عودتهم إلى الضيعة حال انتهاء الفعالية. يسأل أحدهم “مش أحسن بلا ما نطلع بالليل؟” فيجيبه صديقه “بدنا نطلع ونلحق نجهّز للذكرى عنا بالضيعة.. وإذا صار علينا شي بالرجعة بيكون فدا السيّد!”.

كلّ أهل المقاومة حضروا يا سيّد، حضروا لا ليتحدّوا أحدًا ولا سيّما من لا يرقى ليكون ندًّا لك أو لهم، حضروا فقط ليقولوا لكلّ العالم: نحن أحرار هذه الأرض، نحن أهلها الطيبون، هنا وأمام المدى البحريّ المفتوح على كلّ العالم، نجدّد العهد للنهج المقاوم، ونعلن بصرخة مدويّة أنّ هذه المقاومة بكلّ ميادينها باقية، تزول الجبال ولا نزول!

النص يعبر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة عن رأي الموقع

التعليقات مغلقة.