من البايجر إلى الضاحية.. دماء تصنع الفجر
د. أكرم شمص – خاص الناشر |
أيلول الدماء والفجر الجديد
لم يكن أيلول 2024 محطةً عابرة في تاريخ لبنان والمقاومة، بل فصلًا كاملًا من النار والتضحيات، حيث حاول العدو الصهيوني، مدعومًا بغطاء أميركي وصمت عربي ودولي، أن يرسم بخطوط القصف والاغتيالات خريطة جديدة للمنطقة، متوهّمًا أنّ المقاومة ستنكسر برحيل قادتها وتصاعد العدوان. لكنّ ما جرى أثبت أنّ الدماء لا تُهزم، وأنّ القصف مهما اشتدّ لا يطوي مسيرةً اعتادت أن تحوّل الفواجع إلى بداياتٍ جديدة، والدماء إلى راياتٍ تزداد رسوخًا وصلابة.
لقد تحوّل أيلول إلى شهرٍ مفصليّ اجتمعت فيه المأساة مع البطولة، وامتزجت التضحيات بالغارات، في لحظةٍ أرادها العدو نهايةً للمقاومة، فإذا بها بداية فصلٍ جديد من الصمود والوعد الآتي، حيث كتبت دماء الشهداء أنّ المسيرة لا تُهزم، وأنّ الأرض التي تُروى بالتضحيات لا تعرف الانكسار، بل تنتظر فجر النصر مهما طال ليل العدوان.
من البيجر إلى استشهاد القادة
بدأت المأساة بمجزرة البيجر، حيث حاول العدو أن يزرع الرعب في القرى والمدن معتقدًا أنّ دماء الأبرياء سترسم حدود الخوف، لكنّ الدماء حين سالت على الأرض تحوّلت إلى صرخة لا تُسكت وإرادة لا تُكسر. أعقب ذلك استشهاد الحاج إبراهيم عقيل وقادة وحدة الرضوان، الذين مثّلوا لعقود ذراع المقاومة الضاربة وحملة وصايا الشهداء من جيل إلى جيل. كان اغتيالهم محاولة واضحة لضرب قلب المقاومة الميداني، لكنّ العدو لم يدرك أنّ هذه المقاومة وُلدت لتبقى، وان وحدة الرضوان كانت فكرة قبل أن تكون رجالًا، وأنّ الرجال يصنعون رجالًا، وأنّ الوصية لا تموت بموت أصحابها.
ثم جاء استهداف قادة القوّة الصاروخية، الذين صاغوا معادلات الردع في وجه الاحتلال لسنوات طويلة، ولأن العدو يعرف أنّ سواعد هؤلاء هي التي تزرع في سماء لبنان وفلسطين معادلات الردع الكبرى ظنّ العدو أنّ بغيابهم ستنكسر يد المقاومة الطويلة، لكنّه وجد أنّ هذه اليد لا تتوقّف بل تشتدّ مع كل دمعة أمّ وكل قطرة دمٍ تسقط على الأرض. وبلغ القصف الصهيوني ذروته بأكثر من 1600 غارة في يوم واحد، في محاولة لإخضاع الأرض والناس تحت النار، لكنّ القصف لم يزد المقاومة إلا تصميمًا على أنّ السيادة لا تُنتزع بالتنازلات، بل تُصان بالتضحيات.
قافلة القادة الشهداء.. دماء تصنع العهد الجديد
في 27 أيلول، استشهد الأمين العام الشهيد الأسمى السيّد حسن نصر الله مع كبار قادة المقاومة، فظنّ العدو أنّه يطوي باغتياله صفحةً كاملة من تاريخها، لكنّ دمه تحوّل إلى بداية فصلٍ جديد، كتبه المجاهدون في الميدان بصلابةٍ أكبر، مؤكّدين أنّ القادة يولدون من جديد في وجدان شعبهم كلّما ارتقوا شهداء. ولم تمضِ أيام قليلة حتى التحق بركب الشهداء الشيخ نبيل قاووق، شيخ الانتصار الأوّل، الذي قاد التحرير في عام 2000 وجمع بين القيادة الميدانية والحضور السياسي والدعوة الدينية، ليترسّخ بدمه أنّ القادة هم أوّل من يقدّم التضحيات ليبقى النهج ثابتًا لا ينكسر.
وعقب استشهاد الشهيد الأسمى السيّد حسن، كتب رفيق دربه وخليفته في القيادة الهاشمي السيد هاشم صفي الدين كلماتٍ مؤثّرة عبّر فيها عن أمنيته باللحاق به شهيدًا: “لا طيّب الله العيش بعدك يا سيّدي وحبيبي وروحي التي بين جنبيّ… لعلّي لاحق بك عمّا قريب شهيدًا في أثرك، فتستقرّ بذلك روحي”. وما هي إلا أيام حتى تحقّق الوعد في الثالث من تشرين الأول، ليرتقي السيّد الهاشمي بعد أن قاد المقاومة في أصعب مراحلها، ويؤكّد أنّ دماء القادة تمنح المقاومة أسباب البقاء والصمود، لا لحظات الانكسار.
الموكب الذي لا يُهزم
في خضمّ هذه الأحداث، ركب الرجال وعائلاتهم سياراتهم، أخلوا الساحات لكنّهم لم يُخلوا العهد، ساروا في صحراء الوطن يواجهون الطغاة بصلابةٍ أكبر من القصف، فيما فتحت الأديرة أبوابها، ووقفت بيوت الجنوب والضاحية كالحصون، بينما ظنّت الأبواق المتصهينة أنّ الدماء يمكن أن تُمحى بالتواقيع. ولكنّ الموكب لم يكن موكب هزيمة، بل موكب أبطال آمنوا أنّ الكرامة لا تسقط، وأنّ النصر يُصنع بالدماء كما يُصنع بالمواقف. لقد سارت المواكب ترفع رايات النصر من الجنوب إلى كل بقعةٍ حُرّة، تزرع في طريقها ألف زهير وألف حبيب وألف حرّ، ليحملوا على أكتافهم لا رُتبًا من نحاس، بل رُتبتين من نور: رتبة النصر أو رتبة الشهادة. وإنا على العهد باقون، لا نُهزم، لا نُساوم، ولا نترك الساحة إلا لنعود إليها أقوى، أصلب، وأقرب إلى النصر.
القيادة الجديدة والوعد المتجدّد
في هذه اللحظة المفصلية، حمل سماحة الشيخ نعيم قاسم الأمانة الثقيلة، رفيق الدرب الطويل وصاحب التجربة الراسخة، ليؤكّد أنّ المقاومة أكبر من الأشخاص، وأنّ مشروعها لا يُهزم مهما اشتدّت المؤامرات وتوالت الغارات، وأنّ دماء القادة لم تكن نهاية الحكاية بل بدايتها المتجدّدة. لقد تولّى القيادة في لحظةٍ أراد العدو أن يجعلها لحظة الانكسار، فإذا بها لحظة التجدّد، وأنّ الأمانة ستبقى مصونة ما دام في الأمة رجال ونساء يهتفون كما هتف أبطال كربلاء: هيهات منا الذلة.
وعد الدم… وبداية الفجر
لقد اعتقد العدو أنّ القصف والاغتيالات ستكسر المقاومة، لكنّ كلّ دمٍ سقط جعلها أصلب عودًا وأشدّ حضورًا. هذه الدماء لم توقِف المسيرة، بل فتحت صفحة جديدة من تاريخٍ كُتب بدماء القادة والمجاهدين، لتبقى المقاومة وعدًا لا ينكسر، ولتبقى راياتها مرفوعة حتى بزوغ فجر النصر مهما طال ليل العدوان. لقد ظنّ العدو أنّ اغتيال القادة سيكسر ظهورنا، لكنّ التاريخ علّمنا أنّ الدم يولّد ألف قائدٍ جديد. وها نحن اليوم، بقيادة الأمين العام الشيخ نعيم قاسم نقول لهم إنّ وعد الحسين باقٍ، وإنّ رجال المقاومة لن يتركوا الساحة، وإنّ موعدهم الصبح، أوليس الصبح بقريب؟ فسلامٌ على القادة الشهداء، وعلى الرجال، وعلى القيادة التي لا تعرف التراجع، حتى يأذن الله بانبلاج الفجر الجديد.
النص يعبر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة عن رأي الموقع
التعليقات مغلقة.