الدم يُطهر نهر الأردن
ذل وهوان يتجسدان في سقوط الأحرف وإسقاط الكلمات بسمّ الخيانة، وهي تترنح كما السكرانة بين بيانات رسمية ذليلة ومقالات كتبها أشباه مثقفين رهنوا أعراضهم للسلطة وولاءهم لها حتى بنومها في مخدع العدو، في هذه البلاد التي أنهكها تكدس العملاء الذين وصلت بهم دناءة النفس إلى حد إلصاق تهمة التآمر ضد عملية المقاومة التي نفذها البطل الأردني على معبر الكرامة ليُعيد الكرامة بعدما سحقها أصحاب القرار في بلادي.
الماكينات الإعلامية القذرة رسميةً كانت أم محليةً وعربيةً، لم تتوقف حتى اللحظة عن تشويه بطل الكرامة، تمامًا كما الذباب الذي يحوم ليحقن رذيلة التطبيع، ويشوّه الحقائق بنسج خيوط مؤامرات من وحي خيال مريض تغذى على الهوان والعمالة بغية تأجيج العقول الموبوءة بداء التطبيع وإتلاف ما تبقى لها من ذرات وعي لتظل أسيرة سُعار الخيانة.
القصة واضحة بلا لبس، عملية بطولية بكل المعايير، بطلها رجل من بلادنا العربية، عبد المطلب القيسي، الرجل الخمسيني الهادئ الذي تقاعد مبكرًا من الخدمة العسكرية ليعمل في قطاع الشحن، وتفرغ بالأشهر الثلاثة الأخيرة لامتهان نقل المساعدات إلى غزة بالشاحنة التي قادها يوم العملية، حيث إنه لم يحتمل الوقوف ساكنًا أمام الإبادة والمجازر الفادحة في غزة العزة فترجل بوقار الرجال، وأطلق النار على قطعان العدو الصهيوني، ومن مسافة صفر طعنهم بسكينه ليؤكد أن العملية تمت بنجاح، وسدد جزءًا من ثأر تعاظم منذ نحو قرن من الزمن، ليطمئن قلبه بنزع أرواحهم وإلقائها في مزابل العصر والزمان، قبل أن يتلقى الرصاص من العدو الذي اعتقد أنه أسقطه بين يديه باعتقال جثمانه، غير مدرك أن روحه منذ أول طلقة تحررت وارتفعت إلى بارئها لتمكث في جنات الخلد حاملة شرف شهادة نالها البطل.
ولحد اللحظة لم تقُم السلطات الأردنية باسترجاع جثمان الشهيد القيسي، واكتفت بالإدانة، ولئلا يُفهم حديثي بشكل خاطئ، فالإدانة التي أصدرها الأردن الرسمي لم تكن بحق العدو، بل بحق الشهيد القيسي! إذ وصفت الخارجية الأردنية البطل الشهيد بالمتهم، وزادت على ذلك هوانًا بالقول إن “الأردن يدين العملية ويرفضها لاختراقها للقانون وتعريض مصالح الدولة للأذى”!
وعند قراءة بيان الخارجية وكُتاب السلطة، تشعر للوهلة الأولى أن العملية التي نفذها القيسي استهدفت دولة عربية شقيقة، وكأن فلسطين ليست محتلة، وكأن غزة لا تشهد إبادة جماعية، وكأن العدو الصهيوني لا يبعد بضعة كيلومترات عن حدودنا ويهدد أمن الأردن والوطن العربي بأكمله، ويضرب عرض الحائط بالقانون الدولي ومنظومة حقوق الإنسان التي انهارت منذ عقود وفُضحت بازدواجية معاييرها.
وإن تحدثنا عن القانون الدولي الذي لا أؤمن به مطلقًا فهو ذاته يعتبر المقاومة عملًا مشروعًا، وهذه الحقيقة التي لن يتمكن أصحاب القرار وأذنابهم وذبابهم وخطيب الجمعة الآخر الذي استغفرت الله وتعوذت من الشيطان عقب خطابه التحريضي ضد القيسي تحديدًا حينما صرح بسُفه بأن العملية “فعل غير مسؤول يرتكبها الإنسان دون استخدام عقله ليوقع البلد في ما لا تحمد عقباه”!
بينما المعطيات التي أمامنا تُشير إلى أن هؤلاء الذين يدّعون وطنية مزيفة هم أنفسهم من يوقعون البلد في ما لا تُحمد عقباه في ظل استمرارهم بالتطبيع مع العدو الأزلي للأمة ومهاجمتهم لأي عمل مقاوم ولمحور المقاومة بأكمله إزاء استباحة العدو الصهيوني وحلفائه من القوى الاستعمارية لسماء الأردن باختراق مجاله الجوي بغية إسقاط مسيرات وصواريخ قوى المقاومة وهي في طريقها لدك الاحتلال وانتزاع ثأرنا من طهران واليمن والعراق إلى لبنان.
كذلك لم يكتب أحد من دعاة الوطنية حرفًا ضد تصريحات قادة العدو المتكررة بشأن مطامعهم بالوطن العربي بأكمله وآخرها ما جاء على لسان نتنياهو حين وصف مهمته بأنها “تاريخية وروحية لتحقيق حلم إسرائيل الكبرى”، ما يعني أن العدو واضح بأنه يريد التوسع بكيانه السرطاني لاحتلال أوطاننا العربية ومن بينها الأردن الذي شجع نتنياهو على التصريح علانية بذلك بسبب خضوعه وتواطئه مع كيانه كغيره من الأنظمة العربية المرتبطة بعلاقات هوان واستسلام مع عدونا.
فأين دعاة الوطنية من كل هذا؟ هل أطبق عليهم الصمت كما حدث حين ظهر سموتريتش ليلقي خطابًا وبيده خارطة فلسطين والأردن معًا؟! الخارطة هذه التي تتخذ منها منظمة “الأرغون” الإرهابية شعارًا لها، وتنادي بتحقيق مطلبها المتمثل بضم الأردن لكيانهم، المطلب الذي لا يكف سموتريتش عن السعي إلى تحقيقه جهارًا وعلى مرأى ومسمع أصحاب القرار في الأردن!
وأيضًا لماذا لم يستنفر دعاة الوطنية قرار الكيان استئناف بناء الجدار الحدودي بين الأردن والاحتلال وزرع الألغام، وأبراج المراقبة؟! علاوة على الأراضي المستولي عليها، والاختراقات للدولة، وسرقة حتى ماء نهر الأردن، وإطلاق اسم “أسود الأردن” على كتيبة صهيونية إرهابية لضمان حماية أطول خط حدودي ما بين الأردن والكيان والتي احتفل العدو بتأسيسها على الحدود!
وبالعودة إلى إدانة الأردن الرسمي اليوم للعملية البطولية، وترديد الأبواق النابحة خلفه، تتجلى المفارقة كطعنة في خاصرة الكرامة؛ فالسلطات الرسمية التي ارتجفت من مشهد أردني يثأر لدم غزة، هي ذاتها التي صمتت قبل أعوام عن جريمة قتل صهيوني لأردنيين بدم بارد حين ارتكبها حارس سفارة الكيان في قلب عمان وسُمح له بالعودة مع طاقم السفارة إلى الكيان ولم يتوقف الإذلال هنا بل ازداد حين ظهر نتنياهو باستقباله وهو يبتسم ويشيد بإرهابه قائلًا “تصرفتم جيدًا وكان لزامًا علينا إخراجكم” قبل أن يمازحه حول موعده مع صديقته، كأنما أراد الإعلان لنا أن نزوة القاتل الإرهابي أغلى من الدم الأردني، وما زاد الطعنة عمقًا أن كل ذلك جرى بعد وعود رسمية جازمة بأن القاتل لن يغادر البلاد وأنه سيُحاسب، لنصحو بعدها على مشهد محاكمته بالكيان وقد تحوّلت المحاكمة إلى مسرح غرامي مع صديقته، فيما دم الشهداء تركه النظام على الأرصفة وحيدًا بلا قصاص.
اليوم، تُدان بطولة عبد المطلب القيسي بلسان المرتجفين أنفسهم، لتكتمل الصورة بأن دماؤنا مباحة بين خيانة الساسة، وكرامتنا توارى تحت أقدام المذلة، بينما الأبطال وحدهم يلقنون العدو وأذنابه درسًا فحواه أن الثأر لا يُنتزع إلا بالكفاح المسلح، وأن الكرامة لا تُشترى باتفاقيات استسلام وعار وبيانات هزيلة بل تتجلى حين تُروى الأرض بالدم لتعيد حتى للمعبر اسمه.
وختامًا، الحمد لله أن القيسي الذي سار على درب الجازي أتم مهمته، ولم يفصح لأحد عن عمليته، لأنه لو أفصح قبل التنفيذ ووشى أحد المخبرين به لكان اليوم معتقلًا بالأردن كعدة شبان يقبعون في غياهب السجون عقب اتهامهم بنية القيام بعمل تسميه السلطات الرسمية بسبب لعنة الخيانة بالـ”إرهاب”، ورغم أن القانون لا يحاسب على النوايا لكن في بلادي كل أمر بات مستباحًا لإرضاء العدو، وكذلك نشكر الله أن أكرمه بالشهادة كي لا يحاكم مرتين الأولى في كيان العدو، والثانية في بلاده هنا فقد ارتقى قبل أن يتلقى صفعة الغدر من السلطات في وطنه.
النص يعبر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة عن رأي الموقع
التعليقات مغلقة.