د. أكرم شمص | خاص الناشر
في الذكرى الخامسة والعشرين لتحرير الجنوب اللبناني، لم يكن خطاب نائب الأمين العام لحزب الله الشيخ نعيم قاسم استذكارًا لحدثٍ مضى، بل بيانًا إستراتيجيًا يُعلن فيه أن الجبهة لم تُقفل، وأن المقاومة ليست ورقة قابلة للطيّ، بل هوية وطنية راسخة. وفي حين رأت فيه “تل أبيب” رسالة تهديد وردع، تلقفته بعض الأصوات في الداخل كدعوة مفتوحة للانقسام والتمهيد للضغط الدولي لنزع السلاح.
المعادلة تغيّرت: من يحمل السلاح أم من يحمي الوطن؟
جاء الخطاب الأخير للشيخ نعيم قاسم كمحطة فاصلة في مسار الخطاب السياسي للمقاومة، حيث لم يعد الحديث محصورًا بسلاح الحزب كأداة تنظيمية، بل أصبح هذا السلاح جزءًا من عقيدة وطنية شعبية. التحوّل اللافت كان في نقل النقاش من سؤال “من يملك السلاح؟” إلى سؤال أكثر جوهرية وشرعية: “من يحمي الوطن؟”. هذه المعادلة الجديدة لم تعد تنطلق من منطلقات حزبية ضيقة، بل تعبّر عن وجدان جمعي تشكّل بفعل التجارب والتهديدات المتكرّرة. وفي ظل استمرار الاحتلال وتصاعد التهديدات، يصبح الحديث عن نزع السلاح وكأنه دعوة غير مباشرة لتسليم اللبنانيين أمنهم وسيادتهم للعدو، قبل أن يطمئنوا إلى زوال الخطر عن أرضهم.
بين نزع السلاح ونزع السيادة: سلام يُعيد طرح معادلة الخارج من منبر غير وطني
في لحظة وطنية دقيقة، اختار رئيس الحكومة اللبنانية أن يُعيد طرح سؤال نزع سلاح المقاومة، لا من موقع المواجهة أو تحت سماء الجنوب التي ما زالت تعيش تحت التهديد، بل من منصة خليجية ممهورة بشروط الخارج. تصريح نواف سلام لم يأتِ من بنت جبيل ولا من الخيام، بل من قاعة فاخرة، وبدا كأنه موجّه لجمهور لا يعرف شيئًا عن طائرات العدو، ولا عن القرى المحاصرة بين الجغرافيا والنار، وباسم “حصرية السلاح”، بشّر اللبنانيين بدولة تُبنى لا على استعادة الأرض، بل على نزع عناصر القوّة الذاتية، متجاهلًا الاحتلال، والاعتداءات المتكرّرة، والملفات السيادية العالقة.
نواف سلام: دعوة خارج السياق.. من خارج الأرض
ما يطرحه سلام ليس جديدًا، بل يعيد إنتاج معادلة قديمة: اربطوا الاستقرار بملف السلاح، وسترون تدفق المساعدات. لكنّها معادلة جرّبها اللبنانيون مرارًا، ولم تجلب سوى الانقسام والابتزاز. تجربة الأمم الحيّة علّمتنا أن السلاح في وجه الاحتلال ليس ترفًا بل واجب، وأن الدول لا تُبنى بالتجرد من أدوات الردع بل بامتلاكها. فرنسا ذاتها، لم تخلّد مقاوميها لأنها أرادت الحرب، بل لأنها احترمت حق الدفاع. فكيف يُطلب من بلد لا تزال أرضه محتلة، وسماؤه مستباحًا، أن ينزع سلاحه قبل أن ينال حقه؟ المعضلة ليست في النقاش حول السلاح، بل في التوقيت، والسياق، والمنبر. والمفارقة أن من يطالب بنزع السلاح اليوم، لم يقدّم خطة لتحرير الأرض ولا رؤية شاملة للدفاع، بل اكتفى بإعادة تدوير لغة الوصاية، حيث يُشترط على لبنان التخلي عن كرامته مقابل وعود بإعمار مؤجل وسلام قابل للبيع.
بين الدولة والمقاومة: اصطفاف سياسي يعيد إنتاج لغة الحرب الأهلية
في مشهد يعيد إلى الأذهان خطاب الحرب الأهلية بصيغته الأكثر عدائية، يتقاطع موقف وزير الخارجية يوسف رجي مع الموقف المعلن لرئيس حزب القوات اللبنانية سمير جعجع، ليشكّلا معًا جبهة سياسية موحّدة عنوانها: الدولة لا تبدأ إلا من نزع المقاومة. جعجع لم يوارِ موقفه، بل صاغه على شكل شروط صارمة: لا مساعدات قبل نزع السلاح، ولا علاقات دولية قبل إنهاء ما أسماه بـ”المشكلة الشيعية”. أما يوسف رجي، فاستبدل موقعه كوزير لكل اللبنانيين، بموقعه السابق كقيادي في القوات اللبنانية، مهاجمًا معادلة “جيش وشعب ومقاومة”، وواصفًا حزب الله بـ”تنظيم مسلّح خارج عن القانون”. كلاهما يتحدث بلغة واحدة: المقاومة لم تعد، في نظرهما، رصيدًا للتحرير بل هي عبء يجب التخلص منه. المفارقة أن من لم يطلق رصاصة واحدة على العدو، يطالب اليوم من حرّر الأرض بترك سلاحه، لا باسم الدولة، بل باسم مشروعٍ سياسي لا يخفي عداءه الصريح لمكوّن لبناني قدّم تضحياته وفرض شراكته في الدولة بدمائه، لا بتصريحات موسمية.
أخطر ما في الخطاب المعادي للمقاومة: أنه مشروع مكتمل الأركان
ما يجري اليوم ليس مجرّد تباين سياسي، بل مشروع متكامل الأركان، يُمهّد له بعض وزراء الحكومة، ويُنظّر له رؤساء أحزاب، ويُسوّقه رئيس الحكومة من الخارج، تحت شعار “استعادة الدولة”. هدفه الحقيقي هو نزع سلاح المقاومة، وربط المساعدات الخارجية بشروط إسرائيلية – أميركية، تمهيدًا لإعادة إنتاج لبنان هش، فاقد للسيادة، خاضع للتوازنات الدولية على حساب الكرامة الوطنية.
لبنان لا يُحرَّر مرتين، والمقاومة لا تُسلَّم مرة. ومن يطلب من اللبناني أن يُسلم سلاحه، فليبدأ أولًا بتحرير أرضه، وتأمين كهربائه ودوائه، وتوفير سقف يحميه من صواريخ العدو. أما من يعتبر المقاومة خارج الشرعية، فليقرأ في وجوه الناس من الجنوب إلى البقاع إلى الضاحية: هذه ليست بندقية حزب، بل روح شعب.
لبنان لا يحتاج إلى نزع سلاح، بل إلى نزع أدوات الفشل والتبعية من أيدي من يفاوض عليه خلف الأبواب المغلقة. سلاح المقاومة ليس استثناءً على الدولة، بل هو ما تبقّى لها من قدرة على قول “لا” في زمن تُباع فيه السيادة في أسواق الوصاية الدولية. ومن يظن أن مؤتمرات الدعم وشروط التمويل كفيلة بإعادة تشكيل هوية وطن، فقد غفل عن حقيقة أن دماء الشهداء أقوى من كلّ العواصم المانحة.
وعندما تحدث نواف سلام عن “حصرية السلاح واستعادة الدولة”، لم يقل لنا عن أي دولة؟ أهي الدولة التي صمتت عن السلاح الأميركي المتدفق إلى تل أبيب؟ أم تلك التي لم تُعد إعمار قرى الجنوب؟ أم التي تتفرّج على العدوّ بقتل شعبنا ويحتل أرضنا ويخترق أجواءنا كلّ يوم؟ وإذا كانت “ثنائية السلاح تؤدي إلى ثنائية القرار”، كما قال، فهل المطلوب أن يُختزل القرار الوطني إلى أحادية تحت إمرة الخارج؟
الخاتمة: بين سلاح المقاومة وركام التبعية
المقاومة في لبنان ليست ترفًا أيديولوجيًا، بل ضرورة وطنية وُلدت من رحم العدوان وتكرّست بفعل التهديد المستمر للسيادة والكرامة. من يطالب اليوم بنزع سلاحها، إنما يدعو الشعب اللبناني لرفع الرايات البيضاء في وجه القصف والتجويع والتهميش، متناسيًا أن هذا السلاح هو ما تبقّى للدولة من قدرة على قول “لا” في زمن غابت فيه الدولة القادرة والغطاء الدولي المنصف. وكما قال الشيخ نعيم قاسم: “المقاومة مجبولة بكيان لبنان”، وهي لم تعد مجرد بندقية حزب، بل تعبير حيّ عن إرادة شعب يرفض أن يكون تابعًا أو هشًّا. في هذا السياق، لا يُختزل عيد المقاومة والتحرير بذكرى، بل يتحوّل إلى مشروع دائم لوطن يحمي، ويحرر، ويبني، ويصون. وبين كثرة الأصوات، يبقى صوت المقاومة هو الأعلى لأنه كُتب بالدم، لا بالشعارات. ومن أراد دولة قوية، فليبدأ من نزع الاحتلال لا نزع السلاح، وليبنِ مؤسسات تحمي الناس لا مؤتمرات تفرّط بما تبقّى من كرامة وطن. فالمقاومة ليست العقبة أمام الدولة، بل آخر ما تبقّى لها من كرامة وموقف.
النص يعبر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة عن رأي الموقع
التعليقات مغلقة.