محمد علي – خاص الناشر |
لا يشكّ أحد في أنّ إجرام الكيان الصّهيونيّ بحقّ الشّعب الفلسطينيّ قد وصل إلى حدّ غير مسبوق في هذه الأحداث الأخيرة، فهو لم يترك شيئًا من المجازر والقتل الجماعيّ والتّطهير العرقيّ والتّضليل الاعلاميّ وقتل الصّحفيّين، وغير ذلك، إلّا وقد قام به. كلّ ذلك على مرأى ومسمع جميع الدّول والأنظمة والمنظّمات المهتمّة بحقوق الإنسان، وقد شاهدته شعوب العالم كافّة بالتّغطية المباشرة، ولم يتمكّن أحد من منع ما كان يجري.
لذا نزل مئات الآلاف بل الملايين من النّاس الشّرفاء إلى الشّوارع ليمارسوا حقّهم في حرِّيَّة التّعبير عن إدانتهم لجرائم الكيان الصّهيونيّ، واستيائهم من أداء الحكومات الدّاعمة له. وقد رأينا مئات التّظاهرات في أميركا وكندا وبريطانيا وغيرها من بلاد أوروبا والعالم العربيّ، تطالب الشّعوبُ من خلالها بمحاكمة “إسرائيل” ومقاطعة بضائعها والتَّدخُّل الدّوليّ السّريع من أجل إنقاذ الفلسطينيّين وإيقاف الحرب. ولم يزل كثير من تلك الجهود والمبادرات مستمرًّا إلى يومنا هذا.
لكن تزامنًا مع جميع ذلك، كان هناك مَن ينظر إلى القضيّة من منطلق آخر، ففي الوقت الذي كان لا ينفي دور تلك التّظاهرات ولم يملّ من التّأكيد على واجبات الجهات الرّسميّة تجاه ما يحصل في فلسطين، وفق قاعدة “ألزموهم بما ألزموا به أنفسهم”، لم ترَ المقاومة نفسها خارجة عن هذه المعركة، بل اعتبرت أنّها مسؤولة عن استخدام قدراتها القتاليّة والاستراتيجيّة للتّخفيف عن الشّعب الفلسطينيّ المظلوم. هكذا تعامل حزب الله وحركة أمل في لبنان مع العدوان في غزّة، وكذلك فصائل المقاومة في العراق واليمن.
لكن مع الأسف، كان لبعض خصوم المقاومة من القوى السّياسيّة المحلِّيَّة في لبنان موقف سلبيّ تجاه قرار المقاومة في مساندة الشّعب الفلسطينيّ، حيث اعتبر البعض أنّ اتّخاذ المقاومة لمثل هذا القرار يقع في سلسلة من التّدابير والسّياسات غير التّقليديّة التي لطالما اعتمدها الحزب في لبنان والمنطقة. من هنا رأى هؤلاء أنّ استقلال القرار عند حزب الله وحلفائه من الأحزاب المقاوِمة المشاركة في هذه المواجهة أمر شاذّ في عالم القانون والسّياسة، ومخالف لأُصول حلّ الأزمات.
في حين أنّ فشل الدّعوى القضائيّة التي قدّمتها جنوب إفريقيا ضدّ “إسرائيل” مؤخّرًا خير دليل على أنّ المنظّمات والمحاكم الدّوليّة عاجزة عن أداء واجباتها. وكذلك الدّعم الأميركيّ غير القانونيّ¹، الذي يُقدَّم لـ”إسرائيل” من دون أن يتمكّن أحد من منعه، ورفض أميركا للخروج من الأراضي العراقيّة رغم قرار الحكومة العراقيّة المؤكّد على وجوب ذلك²، كلّها شواهد غير قابلة للانكار على أنّ من السّذاجة أن يطالب من يريد أن يجعل من حزب الله كبش محرقة لمعاناة اللّبنانيّين على المستوى الاقتصاديّ والمعيشيّ، بالانسحاب من هذه المعركة والالتزام بالأساليب المتعارف عليها في حماية الفلسطينيّين والدّفاع عن أمننا في لبنان.
هذا في ما لو أردنا أن نحسن الظنّ بخصوم المقاومة من باب عدم الخوض في أُسلوب التّخوين والتُّهمة، وإلّا فقد سمعنا جملة من التّصريحات التي تشيطن المقاومة الفلسطينيّة³، والتي تقول بأنّ “إسرائيل” باقية وأنّ تحرير فلسطين حلم لن يتحقّق⁴. ثمّ إنّ محاولة تلميع صورة المجتمع الدّوليّ ومطالبة مَن أثبت وزنه على أرض المعركة بالاحتكام إلى أعراف وقوانين وسياسات من هو معلوم تورُّطه في جرائم الكيان الصّهيونيّ من القوى الخارجيّة، والإصرار الأعمى على كون المحاكم الدّوليّة مستقلّة وفاعلة، أو أنّ المنظّمات الدّوليّة متينة مؤسّساتيًّا ونافذة قانونيًّا، يُحمل بمجموعه على أنّه أداة ناعمة يُراد من خلالها إبعاد المقاومة عن ساحة العدالة الاجتماعيّة من أجل السّيطرة على المعادلة العسكريّة كما يريدها المعنيّون “الرّسميّون”.
بينما في الواقع، إنّ مبدأ المقاومة، بما يمثّل من إرادة شعبيّة وضرورة وجدانيّة يحكم بها العقل الإنسانيّ المفطور على إدراك حسن العدالة وقبح الظّلم، ليس أمرًا يحتاج إلى تشريع واعتراف دوليّ، حتّى يُتّهم حزب الله وحلفاؤه بالقفز فوق الأعراف والقوانين الدّوليّة. فإنّ المقاومة – على طبيعتها – هي أوضح تجلّيات “حكومة الشّعب” التي ما برحت الدّول تحاول الوصول إليها عبر الانتخابات والعلاقات الدّبلوماسيّة والإعلام وسائر أركان الحكم والسّياسة.
الذي يجب أن يفهمه الجميع في هذه المرحلة وقادم الأيّام هو أنّ مبدأ المقاومة ليس خاضعًا لأيّ من هذه القراءات والتّعريفات، فهو متفوّق عليها بأسرها من جهة كونه نابعًا من واجب التّعويض عن فشل النُّظُم الموضوعة لحفظ السّلام ومنع التّعدّيات التي تقوم بها “إسرائيل” منذ أكثر من سبعين عامًا على نحو مستمرّ. ولا ينشأ تنظيم مقاوم إلّا إذا استوجب ذلك تضييع حقّ، يقتضي السّعي لإصلاح الأُمور وإعادة التّوازن من موقع آخر غير رسميّ. وليست المقاومة أكثر من ذلك. قال الإمام المغيّب السيّد موسى الصّدر عام ١٩٧٦: “إنّ مسألة الدّفاع عن النّفس وعن البيت حقّ بل واجب كلّ مواطن لا يمكن منعه عنه، بعدما تخلّت السّلطة عن واجباتها”⁵.
المصادر _
١. لاحظ ما يسمّى بالـ “Leahy Law”، وهو القانون المانع من تقديم المساعدات الأمنيّة للحكومات أو الجماعات الأجنبيّة التي ترتكب انتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان
٢. هو القرار الذي صرّحت به الحكومة العراقيّة بتاريخ ١٠ كانون الثّاني ٢٠٢٤
٣. لاحظ تبنّي شارل جبور لسرديّة ارتكاب حركة حماس المجازر في حقّ الإسرائيليّين في عمليّة ٧ تشرين ٢٠٢٣ في مقابلة مع الاعلاميّ رواد ضاهر في برنامج “بالمباشر” بتاريخ ١ تشرين الثّاني ٢٠٢٣
٤. هو ما قاله كميل شمعون في مقابلة مع فادي شهوان في برنامج “البديل” بتاريخ ٢٠ كانون الأوّل ٢٠٢٣
٥. كتاب “الكلمات القصار”، ص١١٣
النص يعبر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة عن رأي الموقع
التعليقات مغلقة.