دولة حيدر أحمد – الناشر |
شهدت الضفة الغربية المحتلة منذ بداية “طوفان الأقصى” في السابع من أكتوبر 2023 تصعيدًا عنيفًا لم يشهده الاحتلال منذ الانتفاضة الثانية، حيث استغلت سلطات الاحتلال التعتيم الإعلامي في الضفة للتركيز على الحرب في غزة، وشنّت حملة عسكرية شرسة على شمال الضفة، ما غير واقع الضفة الأمني بشكل عام وشمالها بشكل خاص إلى غيّر رجعة.
تصاعد عمليات المقاومة
تصاعدت عمليات قوات الاحتلال العسكرية في الضفة، بالتزامن فمع تصاعد عدد المجازر في غزة، وعلى وجه التحديد في شمال الضفة، حيث جنين وطولكرم ونابلس، المدن الثلاث التي تشهد اشتعالًا ميدانيًا منذ أكثر من عامين، تضاعفت وتيرته في الشهرين الأخيرين، وتصاعدت وتيرة الاشتباكات اليومية في مختلف مناطق الضفة مع قوات الاحتلال، التي يستهدفها الشبان بالعبوات الناسفة والأكواع المتفجرة محلية الصنع، فضلا عن عمليات إطلاق النار المنظمة منها والعفوية.
في هذا الإطار، ازداد عدد العمليات النوعية القاتلة في الضفة والقدس منذ بداية “طوفان الأقصى” ما رفع من خسائر الاحتلال المادية والبشرية، حيث قتل 8 إسرائيليين في شهر نوفمبر/تشرين الثاني وحده، بالإضافة إلى استنزاف فرق قوات الاحتلال وآلياتها في محاولة القبض على منفذي العمليات الذين يتمكن بعضهم من الانسحاب بسلام بعد تنفيذ العملية، وكل عملية تجر خلفها عمليات أخرى، على أن المقاومة جذابة للشباب، الأمر الذي دفع المستوطنين إلى تقييد حركتهم في مستوطنات الضفة خشية التعرض لعملية دهس أو طعن من قبل المقاومين أو المدنيين. فيما تعكس العمليات النوعية التي تنفذها المقاومة في الضفة والقدس تصاعد الروح المعنوية لدى الفلسطينيين، فيما كانت مدينة جنين من أكثر المدن الفلسطينية التي شهدت عمليات مقاومة، حيث نفذت فيها المقاومة العديد من العمليات النوعية، أسفرت عن مقتل وإصابة العشرات من جنود الاحتلال والمستوطنين.
التصعيد الأعنف منذ الانتفاضة الثانية
يخرج معظم المنفذين من مناطق شمال الضفة، والتي صنفت كمناطق (أ) ضمن اتفاقية أوسلو، وبذلك تخضع لسيطرة السلطة الفلسطينية الأمنية والإدارية شكليًا. ولمواجهة التصاعد في العمليات النوعية القادمة من شمال الضفة، لجأت سلطات الاحتلال لتنفيذ استراتيجية استباقية، تهدف إلى تصفية المقاومة والكتائب في الضفة، وذلك نظرًا لتراخي قبضة السلطة الأمنية وعدم قدرتها، رغم تواطؤها، على تحقيق مهامها بالقبض على المقاومين وتسليمهم للاحتلال كما يجب، وبالتالي كثّف جيش الاحتلال الإسرائيلي من عمليات الاغتيال والاعتقالات، والتي تجاوزت فيها أعداد الأسرى الـ4500 أسير، فضلاً عن عمليات التخريب والتجريف في البنية التحتية، كما أدخل الاحتلال سلاح الجو في العمليات العسكرية الاستباقية، وذلك منعاً من تحويل شمال الضفة، المنفلت من قبضتها الأمنية، إلى غزة ثانية، وطوفان أقصى أكبر.
على الرغم من التحديات الكبيرة التي تواجهها، تتطور قدرات المقاومة الفلسطينية في الضفة بصورة متصاعدة، ما يهدد قدرة الاحتلال على تحقيق أهدافه في تصفيتها. فقد تعرضت مدينة جنين وحدها لـ 16 اقتحامًا كبيرًا منذ بداية أكتوبر. ويعكس تماسك المقاومة في جنين قدرتها على إعادة بناء نفسها بعد كل ضربة، فضلًا عن التحصين الكبير وعمليات إرباك قوات الاحتلال، الأمر الذي يحول دون تحقيق أهدافها. كما حدث في مخيم نور شمس في طولكرم، حيث تنشط كتيبة طولكرم بالتصدي لاقتحامات الاحتلال في كل مرة.
إطلاق يد المستوطنين المسلحين
في ضوء ذلك، وبعد مرور أكثر من 72 يومًا على بداية الحرب على غزة والضفة، تواصل قوات الاحتلال حربها الأخرى، والتي يقاتل فيها المستوطنون تحت غطاء قوات الجيش، ما أسفر عن استشهاد أكثر من 10 جراء عنف المستوطنين. وتتخذ هذه الحرب شكل استهداف المستوطنين الفلسطينيين في منازلهم وأماكن عملهم، وارتكاب جرائم بحقهم، في ظل استغلال ما حصل في السابع من أكتوبر كذريعة انتقامية من كافة الفلسطينيين. وفي ظل غياب كامل للمحاسبة، بل وعلى العكس، فمعظم ما نفذه الاحتلال من عمليات اعتقال كانت بعد حملات تحريض منظمة من المستوطنين.
في حين أشارت تقارير عبرية وأخرى أميركية إلى زيادة طلبات التسلح لـ 250 ألف طلب قدم بها إسرائيليون من أجل الحصول على رخص حمل السلاح بعد عملية طوفان الأقصى، وفق أرقام لجنة الأمن الوطني الإسرائيلية، بالإضافة إلى الإقبال على مراكز التدريب برعاية جيش الاحتلال.
ووصفت صحيفة ليبراسيون الفرنسية في تقرير لها ما يجري من تسليح للمستوطنين “بالاندفاع المقلق نحو اقتناء الأسلحة النارية”، معتبرة أنه ليس مجرد استجابة للقلق الطبيعي، بل هو سياسة حكومية. غير أن هدف الحكومة اليمينية تحقق أسرع مما كانت تخطط، حيث تجتاح صور المستوطنين المسلحين منصات التواصل الاجتماعي يوميًا من مختلف الأعمار، وهم يتجولون في شوارع الأراضي المحتلة حاملين أسلحة، وهم يمارسون نشاطهم الاعتيادي.
تدفع ممارسات المستوطنين عجلة مخطط التهجير القسري قدمًا الذي ازداد الحديث عنه خلال طوفان الأقصى. فكما يعمل الاحتلال على تهجير أهل غزة علانية، تسير مخططات تهجير أهل الضفة في الخفاء. حيث تمكنت قوات الاحتلال بمساعدة المستوطنين من إجبار سكان 16 تجمعًا رعويًا في جنوب جبل الخليل، تضم أكثر من 900 شخص، على ترك قراهم خوفًا من اعتداءاتهم المتكررة. وكذلك الأمر في شمال غور الأردن، حيث غادرت حوالي 20 عائلة قراها لنفس السبب.
تسعى سلطات الاحتلال، في ظل الحرب الحالية، إلى تحقيق هدفين مترابطين، هما:
أولاً، إضعاف المقاومة الفلسطينية، وذلك عن طريق استنزافها وتصفيتها.
ثانياً، تهجير الفلسطينيين وإحلالهم بسكان آخرين، وذلك من خلال التوسع الاستيطاني.
لتحقيق هذين الهدفين، تسعى سلطات الاحتلال إلى دفع الفلسطينيين للانسحاب من قراهم وأراضيهم، وإتلاف محاصيلهم الزراعية، ومنعهم من الوصول إليها. كما تسعى إلى منع تكرار انتفاضة الأقصى التي قد تؤدي إلى هزيمة الاحتلال.
وقد أدت هذه السياسات إلى تفاقم الأزمة الإنسانية في الضفة الغربية، حيث تسبب التصعيد في تشريد آلاف الفلسطينيين، وإصابة واعتقال عشرات الآلاف منهم، ونتيجة لذلك، زادت الحاجة إلى المساعدات الإنسانية، وفرضت أعباء إضافية على المؤسسات الفلسطينية.
انتقدت صحيفة هآرتس العبرية، في افتتاحيتها يوم الاثنين الماضي، سياسة رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، مشيرة إلى أنها تقود البلاد إلى انتحار. وقالت الصحيفة إن نتنياهو فشل في وقف إطلاق النار في غزة في أكتوبر الماضي، واليوم يدفع البلاد إلى أزمة جديدة في الضفة، عبر دعمه للمستوطنين وجيشه، وخطابه المسيء للسلطة الفلسطينية. وأضافت الصحيفة أن نتنياهو يسير بلا تخطيط مناسب، ويتصرف بدافع الانتقام والغريزة، ما قد يؤدي إلى وقوع المزيد من الضحايا.
استراتيجية إسرائيلية استباقية
عززت سلطات الاحتلال، في شمال الضفة، إجراءاتها القمعية ضد الفلسطينيين، من خلال تقسيم الضفة إلى جزر معزولة، وفرض حواجز ثابتة ومتحركة، وإجراءات مقيدة خلال عمليات التفتيش، وإغلاق العديد من المحال التجارية والمطاعم والمصالح. وقد أدت هذه الإجراءات إلى شل حركة تنقل الفلسطينيين، ولا سيما المقاومين والمطاردين. ولكن على الرغم من ذلك، استمرت المقاومة الفلسطينية في تنفيذ عمليات نوعية ضد الاحتلال.
مع عزل المناطق، تشن قوات الاحتلال حملات اعتقال يومية في مختلف مناطق الضفة، تعمدت خلالها إفراغ الضفة من المؤثرين سياسيًا وعسكريًا وشعبيًا، وخصوصًا في المخيمات. حيث تدهم كل ليلة المنازل والمساجد بحثًا عن مطاردين، أو تنفيذًا لعملية اعتقال لأسباب تعسفية وسخيفة، كاعتقال العديد من الشبان بسبب وضعهم إعجابًا على منشور يدعم المقاومة على “فيسبوك”. فيما شهدت كل من نابلس وجنين وطولكرم وطوباس ورام الله حملات الاعتقال الأكبر منذ بداية الحرب. حتى الآن، تتحول الاعتقالات هذه في أغلبها إلى مواجهات واشتباكات مسلحة مع المقاومة التي تتصدى لها بكامل قدرتها العسكرية والبشرية، على الرغم من عمليات اغتيال المقاومين غير المسبوقة التي نفذتها قوات الاحتلال باستخدام سلاح الجو عبر قصف المنازل بالمسيرات، وسط تكثيف للقصف الجوي لم تشهده الضفة منذ عام 2002.
الضفة تربك الاحتلال
لم تحقق قوات الاحتلال أهدافها بالكامل في الضفة حتى الآن، رغم تحويلها لمسرح للعمليات العسكرية. لقد نجحت في إرباك المقاومين وتقييد حركتهم، لكنها لم تتمكن من تصفيتهم أو انتزاع سلاحهم. فالمقاومة الفلسطينية تدرك جيدًا قيمة كل رصاصة في هذه المعركة الطويلة، وتحرص على عدم إهدارها. كما أنها قادرة على إعادة بناء نفسها حتى في ظل الظروف الصعبة، مثل صعوبة تلقي الدعم من غزة بسبب العدوان الإسرائيلي عليها.
ومنذ السابع من أكتوبر، نفذت المقاومة الفلسطينية أكثر من 3000 عملية في الضفة والقدس، من بينها 2100 مواجهة مع قوات الاحتلال والمستوطنين، و800 عملية إطلاق نار، منها 300 عملية نوعية أسفرت عن مقتل 10 إسرائيليين. كما استشهد أكثر من 300 فلسطيني وأصيب أكثر من 3800 آخرين، فيما اعتقل الاحتلال أكثر من 4520 فلسطينيًا.
وهكذا، تشكل الضفة ساحة معركة ثالثة مع الاحتلال الإسرائيلي خلال “طوفان الأقصى”، حيث تستغل سلطات الاحتلال دوافعها الانتقامية لتصعيد وتيرة العمليات العسكرية فيها. كما أنها جبهة بعيدة عن التغطية الإعلامية، لكنها لا تقل أهمية عن جبهتَي غزة وشمال فلسطين المحتلة من حيث الإرباك والإشغال لجيش الاحتلال.
النص يعبر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة عن رأي الموقع
التعليقات مغلقة.