يبدو أن هوة الانقسام بين الرأي العام العالمي المؤيد والمعارض للحرب الوحشية الصهيونية على غزة قد بدأت بالاتساع فعليًا، وهذا الاتساع الناتج عن التغير في المواقف المؤيدة لصالح الكفّة الأخرى، كان وقبل كل شيء مرتبطًا بالانتفاضة الشعبية التي شهدتها دول عديدة في العالم لوقف الحرب العبثية على قطاع غزة وفك الحصار عنه.
الحقيقة التي يشهدها العالم اليوم، ومع استمرار هذه الحرب الوحشية، هو ذاك الانحدار التدريجي المتسارع نوعًا ما في التأييد الشعبي للكيان الصهيوني، وقد ظهر ذلك في إحصاءات عديدة شملت دولًا أوروبية مختلفة، لعل أبرزها معطيات صحيفة “بيلد” الألمانية التي أظهرت صورة التراجع الملحوظ للتأييد الصهيوني مقابل التضامن الكبير مع الفلسطينيين والذي ازداد أضعافًا.
هذا الأمر يتبعه أيضًا التضامن الفني الكبير الذي أبداه العديد من المشاهير والمؤثرين الغربيين والأميركيين على مواقع التواصل الاجتماعي، والذين تحدث بعضهم عن سعي الاحتلال الصهيوني لدفع مبالغ طائلة لهم للتسويق للرواية الصهيونية، وحشد تعاطف الرأي العام العالمي إليها، لا سيما في عدد من الدول الغربية المستهدفة: ألمانيا، فرنسا وبريطانيا، إلا ان هذه الحملات الإعلامية باءت بالفشل بعد أن أظهر الرأي العام العالمي عكس ذلك.
والجدير بالذكر، أن معركة الرأي العام هذه ليست سهلة، لا سيما في ظل القمع الكبير جدًا الذي تمارسه شركات وسائل التواصل الاجتماعي للمؤيدين للقضية الفلسطينية، حيث تعمل على حظر كل ما يتعلق بدعم وتأييد الفلسطينيين وإشهار الإجرام الصهيوني، وهذا ما يدل فعلًا على أن حجم تفاعل الرأي العام العالمي مع القضية هو كبير وواسع جدًا لأن القضية وصلت إلى كل أقطاب العالم رغم كل سياسات القمع والحظر الإعلامي والاجتماعي.
هذا التغير والزخم الشعبي في مناصرة القضية، كان له تداعيات أيضًا على مواقف المنظمات الدولية الإنسانية، والتي أعلن معظمها وبشكل واضح أن ما يجري في قطاع غزة هو حرب إجرامية وإبادة جماعية للشعب الفلسطيني. وهذه المواقف –وإن كانت قد أتت تحت تأثير الضغط الشعبي الدولي- إلا أن الكيان الصهيوني لم يأخذها بالحسبان، وضرب بمناشداتها ومطالبها “الإنسانية” عرض الحائط، واستكمل إجرامه بحق أطفال ونساء غزة.
إذًا، الأمور إعلاميًا تبدو واضحة، وكذلك الأمر فيما يتعلق برأي الشعوب اتجاه القضية الفلسطينية والحرب الإجرامية على غزة والتي استؤنفت بعد انتهاء الهدنة، إلا أن هذا الضغط الشعبي العالمي يبقى – رغم تأثيره الإعلامي الكبير- محدود التأثير على مجرى القضية والحرب عمومًا إن لم يشكل ورقة ضغط على قرارات الحكومات والدول الداعمة ظاهرًا وباطنًا.
الأمور في هذا السياق هي فعليًا أعمق مما تبدو عليه في الوسط الإعلامي، لأن هذه الانتفاضات المناصرة للقضية بكل أشكالها، ورغم أنها حققت اضطرابات في مواقف الحكومات والأحزاب السياسية، إلا أنها واقعيًا لم تحدث تعديلات جوهرية في دعهما للكيان الصهيوني، وهذا ما يترجمه الواقع الميداني في الأيام الأخيرة الماضية بشكل جلي وواضح.
هذه التخبطات في مواقف الحكومات دفعت بها إلى اتخاذ إجراءات متباينة التأثير، إذ لجأ معظمها إلى تكثيف إدانته لـ”سياسة “إسرائيل” القتالية” ودعوتها لتحييد المدنيين واحترام القانون الدولي في أعمالها الحربية، بينما لجأ بعضها الآخر إلى المطالبة بتنفيذ هدن إنسانية ووقف إطلاق النار وتعزيز المساعدات الإنسانية لقطاع غزة، وقد بلغت المواقف سقفها الأعلى بقطع العلاقات الدبلوماسية مع الكيان الصهيوني واستدعاء السفراء.
لم تحدث هذه المواقف المختلفة تأثيرات جذرية ردعية في قرارات كيان الاحتلال، واستئناف الحرب البربرية على قطاع غزة منذ أيام هو الدليل الأوضح على ذلك. والجدير بالذكر أيضًا أن هذه الحكومات وقبل كل شيء، تربط مواقفها وقراراتها على نحو وثيق بعلاقاتها بالولايات المتحدة الأميركية التي كانت ولا زالت صاحبة القرار الأعلى في هذه الحرب، وما نشهده من مواقف متناقضة لها ليس سوى “خدعة” سعت إليها كما في كل مواقفها العنصرية الإجرامية السابقة، في محاولة لإظهار نفسها بصفة “الحمل الوديع” لتضلل بها الرأي العام العالمي ولتزيح الشبهة عن سياساتها الإجرامية.
هذا التباين بين الزخم الشعبي الدولي، والجُبن والعار في مواقف الحكومات السياسية قد يكون له تأثيرات كبيرة على مصالح الدول ومستقبلها السياسي وحتى الاقتصادي، إلا أنه في الوقت الراهن لم يشكل لحد الآن عاملًا حاسمًا في تغيير مجريات الأمور على أرض الواقع، مما يثبت مجددًا أن الكلمة العليا هي للغة القوة والمعركة والقتال، والتي أثبت الصهيوني وعلى امتداد تاريخه الإجرامي أنها اللغة الوحيدة القادرة على ردعه وصد إجرامه وكسر جبروته الوهمي.
النص يعبر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة عن رأي الموقع
التعليقات مغلقة.