لا زال الكيان الصهيوني غارقًا في المواجهات ومشغولًا بإحصاء عدد قتلاه، يعيش هَول صدمة لم تكن في الحسبان في معركة مباغة شلّت الكيان انطلاقًا من غزة المحاصَرة، أركبت قيادته الأمنية والعسكرية، وأصابت الإدارة السياسية بصفعة ليس سهلًا القفز فوق تداعياتها، ولن تنتهي مفاعيلها داخل الكيان.
نظرة المستوطنين المذهولين إلى وهن دولتهم وضعف أمنها وخيبة أجهزتها الاستخبارية، التي طالما تغنّوا بإنجازاتها وقدرتها، وقوة جيشهم الذي لا يقهر، أسطورة تهاوَت في لحظة، وسقطت معها بنية أقوى “دولة” في الشرق بتفوّقها العسكري ودعمها السياسي الدولي وارتباطها بالغرب، بكونها ذراعًا أميركية وقاعدة متقدّمة لحماية المصالح الغربية في قلب الوطن العربي والعالم الإسلامي، وهي فوق القوانين والمواثيق الدولية لما يزيد عن سبعة عقود خاضت خلالها حروبًا واحتلت عواصم عربية، وفرضت الاستسلام، وساقت الأنظمة العربية إلى مؤتمرات الاستسلام والتطبيع، من مغربه إلى مشرقه، بما فيه أنظمة الخليج ودول الطوق، باستثناء سوريا التي دفعت ثمن موقفها ولا زالت تدفع، وكذلك لبنان وطن المقاومة وعاصمة التحرير، الذي أسقطت مقاومته اتفاق السلام مع العدو المعروف باتفاق السابع عشر من أيار بانتفاضة السادس من شباط، في ثورة كتبت بداية عصر المقاومة الفعلية بدعم من الجمهورية الإسلامية في إيران واحتضان القيادة السورية.
أدّى ذلك في لبنان إلى نشوء مقاومة احترفت الجهاد ورسمت طريق الانتصار، فوحّدت دربه الذي سلكته رغم الصعاب في لبنان وفلسطين، وكثيرًا ما خاضت مواجهات في الداخل الذي انخرط بعضه بالسلام والاستسلام، ودخل حظيرة التطبيع في مشروع شرق أوسط جديد بمعايير أميركية أطلقت عليه الإدارة الأميركية اسم “صفقة القرن” لتصفية القضية الفلسطينية. فبعد إنهاك سوريا بالإرهاب وإغراق اليمن في حرب عبثية، وتدمير العراق، أتت محاصرة لبنان سياسيًا وماليًا، وإنهاك اقتصاده، والعبث في تركيبته السياسية والبرلمانية، وخيضت ضده حرب إعلامية، ورماه الأميركيون بكرة نار على شكل أزمة سياسية وغزوات جيوش منظمات وجمعيات دولية (NGO’S)، وصولًا إلى حرب على غزة واستهداف فصائل المقاومة فيها بمعاونة أجهزة عربية ودولية، بمن فيهم أجهزة السلطة الفلسطينية.
كلهم عملوا مجتمعين على محاصرة غزة وتحريض الشعب الصامد على المقاومة وقادتها بهدف الضغط وفرض شروط الاستسلام على المقاومة التي وحّدت ساحاتها في فلسطين ولبنان وسوريا واليمن والعراق، ورصّت الصفوف استعدادًا لمعركة لم تكن بحسبان العدو الإسرائيلي وأجهزته الاستخباراتية، ولم ينفع معها الدعم الأميركي الغربي ولا الإدانة العربية، ولم يحمِ التطبيع أمن “إسرائيل” ومكانتها التي سقطت عن عرش قوّتها وتحوّلت عبئًا على المجتمع الغربي والأميركي وإدارته غير الراغبة في فتح جبهات جديدة لا تعرف ماذا ينتظرها فيها من مفاجآت قد تسرّع في تغيير صورة المنطقة بما يتناسب مع توازن القوى الجديد في عالم متعدد الأقطاب نشأ على أنقاض أحادية القطب الأميركي وتفوّق الغرب.
النص يعبر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة عن رأي الموقع
التعليقات مغلقة.