يوم يفصلنا عن ذكرى أربعين الإمام الحسين (ع)، الذكرى التي بدأ المحبون بالتوافد إلى العراق لإحيائها من كل بقاع الأرض، وفاءً وحبًا وتجديدًا للعهد بالبقاء على نهج سيد الشهداء(ع).
عامًا بعد عام، تزداد أعداد الوافدين المليونية لإحياء مراسم الزيارة، وهي ورغم ما شهدته على امتداد التاريخ من تحديات وظروف قاسية ومخاطر جسيمة، إلا أن ذلك لم يمنع محبي الإمام (ع) من زيارته كل عام، وفي ذلك دلالة واضحة وصريحة على الانتشار الكبير والعميق الذي شهدته وتشهده ثقافة الأربعينية على امتداد العالم بأسره، والذي لا بد أن نكون جزءًا منه وسببًا لتوسعه وانتشاره، ورسم صورة صادقة ونقيّة لهذه الثقافة المحمدية الأصيلة.
الأربعينية.. ظاهرة إنسانية عظيمة بأبعاد مختلفة
لا شك أن زيارة الأربعين، وعلى امتداد التاريخ الإسلامي، باتت تشكل ظاهرة دينية وثقافية واجتماعية عالمية فريدة من نوعها على صعيد الأديان والمعتقدات أجمع، وقد شكلت هذه المناسبة موعدًا لالتقاء أحرار العالم في حضرة سيدهم، سيد الأحرار (ع).
لم تكن زيارة الأربعين مجرد مراسم أو شعائر دينية بحتة، أو مناسبة اعتاد محبو أهل البيت (ع) على إحيائها كل عام، بل كان لهذه الظاهرة أبعاد كثيرة أخرى متعددة الجوانب، انطلاقًا من البعد الروحي والديني والأخلاقي وصولًا إلى الأبعاد الاقتصادية والثقافية والاجتماعية وحتى السياسية.
توفّر زيارة الأربعين على الصعيد الأخلاقي، عددًا من الدروس الأخلاقية العملية وتكشف واقعيًا المستوى الأخلاقي للزائر، وذلك من خلال المواقف التي يواجهها في سفره وفي طريق المشاية وكيفية تعامله مع الآخرين في كل ذلك. ولعل أبرز هذه الصفات هي الصبر والتواضع وروح العطاء والتحمل وخدمة الآخرين والعفو واحترام الآخر وغيرها.
من ناحية أخرى، فإن زيارة الأربعين لم تكن عبارة عن مراسم عزاء وحزن فقط، بل تحمل في طياتها أبعادًا ثقافية متعددة، من أهمها ثقافة العمل الطوعي بما يخدم تطور المجتمعات، وثقافة التعايش السلمي والانفتاح على الآخرين، وثقافة البذل والصرف في سبيل الله، والإنفاق على حبه، فضًلا عن الثقافة التي جسدتها زيارة الأربعين بكل معانيها، وهي ثقافة انتصار الدم على السيف.
وفيما يتعلق بالبعد الاجتماعي للمناسبة، فإنه من المعلوم أن قدسية زيارة الأربعين تكمن في أنها تجمع أصحاب الإرادة الحرة من مسلمين وغير مسلمين لإحياء شعائرها، مما يعني مزيجًا من السلوكيات الاجتماعية المختلفة التي تتآلف فيما بينها وتنتج سلوكيات أكثر انفتاحا وتضافرًا وقربًا للسلوك الحسيني وخدمة له، لا سيما وأن معظم هذه الحشود يكون من فئة الشباب، الفئة الأكثر حماسًا وعنفوانًا وطاقةً، والتي تساهم بدورها في تحصين المجتمع أمام الأفكار الغريبة الخارجة عن الثقافة الإنسانية والدينية السليمة.
أما من الناحية السياسية، فمن المؤكد أن القضية الحسينية تجسد حتمية الصراع والدفاع عن الحق ومواجهة الظلم والفساد بجميع أشكاله، والتخلي عن المناصب والسلطة والهيمنة، وتأتي مراسم الزيارة لتعيد إحياء روح القضية مجددًا في النفوس، وتؤكد كذلك على روح المقاومة لدى الشعوب في مواجهة كل أشكال الظلم والاستبداد، وما شهدته وتشهده حركات المقاومة في المنطقة والعالم من انتصارات وتكاتف ومقارعة للظلم، هو خير دليل على أن هذه القضية لا زالت حيّة في روح كل إنسان مقاوم وشريف.
كيف نستثمر زيارة الأربعين إعلاميًا؟
تشكل زيارة الأربعين بقدسيتها وأهميتها المنصة الإعلامية الأضخم عالميًا، لما تختزله من معانٍ وقيم أخلاقية وإنسانية قبل أي شيء، تجسد من خلالها الدعوة لإقامة العدل والتسامح والعطاء والدفاع عن مظلومي العالم أجمع.
انطلاقًا من هذه القيمة المعنوية والمادية العظيمة التي تختزلها زيارة الأربعين، وفي ظل التطور العاصف جدًا لوسائل التواصل الإعلامية بمختلف أشكالها، تتجه الأنظار اليوم نحو الوسائل الإعلامية على اختلافها، ودورها في تسليط الضوء على هذه المناسبة العظيمة، والمساهمة في تغطية مراسمها ونشر المفاهيم المتعلقة بها على أوسع نطاق ممكن.
يتبع ذلك، الدور الفعال لوسائل التواصل الاجتماعي في نشر هذه القضية، والذي يتعلق قبل أي شيء بكل فرد منا، ودوره الجزئي في رسم الصورة الحقيقية الكاملة للثقافة الأربعينية وبالتالي للرسالة الإسلامية المحمدية، وما يتطلبه هذا الدور من وعي والتزام وإدراك لكل مفهوم أو مشهد غير دقيق أو غير لائق، يعكس في الكثير من الأحيان أهواء شخصية أنانية، بعيدًا عن الغاية الحقيقية المراد إيصالها. والجدير بالذكر أن ثمة نقلة نوعية إيجابية على مستوى الإعلام الرقمي في الترويج الصحيح والسليم لثقافة زيارة الأربعين خلال السنوات الأخيرة. وفي هذا السياق، لا بد من تشجيع الكتابات التي تتناول هذه المناسبة من مختلف جوانبها، على وجه الخصوص الكتابات الأجنبية القادرة على نقل الفكر الحسيني ومفاهيمه إلى الثقافات الأخرى بطريقة دقيقة وواقعية وراقية.
لطالما كانت القضية الحسينية مدرسة للأجيال بأكملها بكل جوانب حياتها، ونهجًا للسير نحو الله سبحانه والنجاة في الدنيا والآخرة، وقد أتت زيارة الأربعين بكل أبعادها استكمالا وتمدّدًا لهذه القضية العظيمة وإحياءً لها، ليبقى شعار الأمة والعالم أجمع على امتداد التاريخ “هيهات منا الذلة”.
النص يعبر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة عن رأي الموقع
التعليقات مغلقة.