لا تقتصر المعركة الوجوديّة مع العدوّ الإسرائيلي على الميدان العسكري فحسب، إنما يشكّل الأخير اللُّبنة الداعِمة لمسارات الحرب التي تَستَجِدُّ لحظة انتهاء المواجهة العسكرية المباشرة، وتستَمِر في الجولات القتاليّة المُتَكَرّرة بطبيعة الحال، طالما أن هدف العدوّ يكمن في مَحْوِ أي أثر لقضيّة المقاومة التي تشكّل عائقًا أمام سيطرته النهائية على فلسطين بشكل كامل، وإقامة دولة إسرائيليّة “طبيعيّة” لا تشوبها شائبة، تقضي على الدولة الفلسطينية وتُقصي أي طموح تَحَرُّري للشعب الفلسطيني. إضافة إلى ذلك، فإن فكرة الكيان الإسرائيلي قائمة على التوسُّع، والاستعمار “التَمَدُّدي”، وبالتالي فإن الرؤية الاسرائيلية توجِب طَمس قضيّة المقاومة وانتزاعها من الوعي الجمعي لشعوب المنطقة المستهدَفة، وهذا ما يحتاج إلى جُهدٍ يَمتَدُّ نحو الجبهات الثقافية والإعلاميّة، لِضَرب مبادئ القيَم التي تُحَفِّز الشعوب على عدم الاستسلام والخضوع للمُستعمِر المُحتَلّ.
ومن ناحية أخرى، وضمن الاستراتيجيّة نفسها، يعمل الصهاينة على التَهويل وتَضخيم حجم التكاليف “الماديّة” التي سيَتَكَبَّدها الشعب الفلسطيني إذا ما أراد المواجهة، ويوعِز لأدواتِه الإعلامية بنشر ذلك التهويل والتسليط على الخسائر “الهائلة” وإظهار حالة الضعف والخنوع لدى البيئة الحاضنة للمقاومة، من دون التَطَرُّق إلى عزيمة المجاهدين وبطولاتهم، والخسائر التي يكبّدونها لعدوّهم. ما يعني بشكل غير مباشر أمرين: الأول، زراعة الرّعب في قلوب أصحاب الأرض، بغية تثبيط عزائمهم وجعلهم خاضعين من دون إثارة المشاكل، والثاني، تحريض بيئة المقاومة عليها، وتحميلها مسؤولية العدوان، وهذا ما عمدت “إسرائيل” إلى استخدامه في لبنان ضد المقاومة اللبنانية، على مدى عقود من المواجهة.
يملُكُ الأعداء يدًا طولى تُسَيطِر على المشهد الإعلامي العالمي بشكل عام، وفي منطقتنا بشكل خاص. وهنا، ليس المقصود الإعلام التلفزيوني فقط، إنما كل الوسائل الإعلاميّة الحديثة التي تُسَيطِر على الرأي العام في الوقت الراهن. وطالما أن المعركة تَستَهدف الوَعي، فإن الوسيط الرئيسي لنَقل السَرديّة الصهيونية ستكون وسائل الإعلام، التي من ضمنها منصات إعلامية ناشطة ومحطات تلفزيونية وتطبيقات التواصل الاجتماعي. يَستخدم العَدوّ تلك الوسائط لنَشر سرديّته من ناحية، وتَجميل صورة الكيان الصهيونيّ من ناحية أخرى.
يَعمَل العَدوّ، عبر استخدام وسائل الإعلام، على تَسطيح مفاهيم المواجهة مع الكيان الصهيونيّ الذي يحتَلّ أرض فلسطين، ويحاول زرع مفاهيم سطحية ومُضَلِّلة داخل الوعي العام العربي، وقَد نجح في إحداث بعض الفجوات في ذلك الوَعي، خصوصًا أن جزءًا كبيرًا من شعوب منطقتنا غير مُحَصَّن مَعرفيًا، وغير مُبالٍ بالصراع الذي يَعنيه أينما كان يستَوطِن، ولو اختَلَفت أسماء البلدان التي تَعيشها، فقضيّة فلسطين لا تعني فلسطين فقط، إنما قضية تمسّ جَوهر مستلزمات العَيش الكريم لدى الأمّة. والجَهل هو العدوّ الأوّل لقضيّتنا التَحَرُّرية، بحيث نصبح لقمة سائغة يَفتَرسها المُستَعمِرون، كما حدَث في “ثورات” الربيع العربي المزعوم، وكما جرى في حراك 17 تشرين اللبناني.
إزاء ما يحدث اليوم في جنين، وما حدَث من عدوان إسرائيلي مُتَوَحّش على المُخيَّم، عمدت وسائل الإعلام الأكثر تأثيرًا على الساحة العربية إلى الاستجابة للرغبات الصهيونية، وعدا عدَد ضئيل منها لا يتخطّى أصابع اليَد الواحدة، على رأسها قناة الميادين، نَقَلت تلك الوسائل الإعلامية أحداث العدوان الإسرائيلي بطريقة مُريبة، هَدَفَت لِضَرب مفاهيم المعركة الحقيقيّة مع المُحتَلّ، والعَمَل على تثبيت مفاهيم تُساهِم في إخضاع الوعي الفلسطيني وقَطع الأمل لديه من جدوى المقاومة والكفاح.
الأخطر من هذا، أن يكون التحريف الإعلامي مُتَأَتِّيًا عن منصات إعلامية تحوز على ثقة عمياء ضمن شرائح عريضة داخل العالم العربي. وتَتَصَدَّر قناة الجزيرة مشهَد التغطية، وتُقَدِّم نفسها على أنها الناطق الرسمي باسم فصائل المقاومة المُقاتِلة على الأرض، لكنها لا تبرح ميدان التغطية “المُنحَرفة” عند كل استحقاق يخصّ القضية الفلسطينية، وقد ظهر سلوكها هذا أثناء العُدوان الإسرائيلي الأخير على مخيّم جنين، بحيث مارست عدة أساليب تخدم السردية الإسرائيلية، أبرزها:
التهويل على أهالي المُخيّم من تَبِعات الأعمال الفدائية التي تحدث أثناء العدوان الاسرائيلي، وبالتالي التلميح للفلسطينيين خارج المخيّم لعدم الإقدام على أي عمل فدائي ضد العدوّ ردًا على عدوانه على جنين، وقد جاء على لسان مذيع القناة في سياق تغطية عملية الدهس في تل أبيب نهار الثلاثاء ما حرفيّته: “من المؤكد أن الإسرائيليين سيوسّعون من عمليتهم العسكرية ويزيدون من ضرباتهم نتيجة هذه العملية”، من دون الإشارة إلى الرادع الذي تُشَكِّله تلك العمليات الفدائية عند العدو وتُثنيه عن التمادي في استهداف المدنيّين الفلسطينيين نتيجة الثمن الذي سيدفعه جرّاء ذلك.
استعمال عبارات كـ “العملية العسكرية الاسرائيلية”، التي تُضفي طابع الحرب الأهلية على العدوان، وهو يرتبط في نهاية المطاف بفكرة “حَلّ الدولتين” التي تُرَوِّج لها بعض الانظمة العربية، ومنها الإمارة الراعِية لقناة الجزيرة، وبالتالي الاعتراف بوجود الكيان الصهيوني وحقِّه بالاستيطان على أرض فلسطين.
إتاحة القسم الأكبر من الهواء المباشر لشخصيات بعيدة عن قضية المقاومة، أو مُطَبِّعة، ولا تحمل الفكر التَحَرُّري المطلوب في المواجهة الكُبرى. كما وتقديمها على أنها تمثل الشرائح الأعظم لدى الفلسطينيّين.
التَغاضي عن الدور الذي تلعبه قوى محور المقاومة في دعم قضية المقاومة الفلسطينيّة عمومًا، وفي ساحة الضفّة الغربيّة بشكل خاص. ومن ناحية أخرى فَصل سياق العمل الجهادي الفلسطيني عن سياق المسار العام لمحور المقاومة، الذي يُعتَبَر الأول جزءًا لا يتجزّأ منه، والمقاومة الفلسطينية هي العنصُر المُشتَبِك في محور المقاومة، ما يعني أن كل أطراف المحوَر تَعمل في خدمة قضية العُنصُر المُشتَبِك وتُشَكِّل مَسنَدًا حقيقيًا لفصائل المقاومة داخل فلسطين المحتلّة.
إخفاء الأهداف الحقيقيّة للعدوان، بالمعنيَين الميداني والسياسي، وعدم إظهار الدور التي تلعبه تلك الجولة العدوانيّة على مسرح المواجهة الاستراتيجيّة للمشروع الاستعماري الإسرائيلي.
بَثّ ثقافة الضعف والهزال أمام الكيان المُحتَل، وعرض مشاهد الاستكانة من دون الإطلالة على مواقف العنفوان من تحت القصف والدمار، والتي يتمتّع بها معظم الشعب الفلسطيني.
جرى تسليط الضوء على قناة الجزيرة لأنها تُعتَبَر، للأسف، “رافعة” القضية الفلسطينية لدى شريحة ضخمة في العالم العربي كما ذكرنا، وهي تمثل مصدر ثقة أيضًا على الساحة العربية. أما بقية القنوات الكُبرى فهي إمّا مُطَبِّعة ومُنحازة للطرف الصهيوني، كقناة سكاي نيوز مثلًا، أو أنها على خلاف ايديولوجي وسياسي مع المقاومة الفلسطينية كقناة العربية، أو أنها تمارس المَكر والخداع لكن تأثيرها مَحدود نسبيًا، كقنوات كثيرة تملأ الفضاء اليوم.
إذًا، تَكمُن خطورة تلك القنوات، وخصوصًا الجزيرة، في أنها تمثّل رأس الحربة في معركة الوعي وكَيّ الوَعي إلى جانب الطرف الصهيوني، لذلك يجب على القنوات التي تُقَرِّر خَوضَ فِعل المقاومة الإعلامية أن تَتَّخِذ طرفًا منذ البداية إلى جانب القوى التَحَرُّرية في منطقتنا، المُتَمَثّلة بمحور المقاومة، وهذا ما لا يُعجِب الكثير من النُخَب الإعلاميّة المُتَمَلِّقة والمَبهورة بالغرب وأدواته، لكن لا يَصُحّ لتلك النُخَب أن تَحسِب نفسها على طرف مقاومة “إسرائيل”، لأنها بشكل أو بآخر تخدم المشروع الصهيوني من دون أدنى ريبة.
وإذا كانت القضية قضيّة وَعي، فإن المطلوب ممارسة معركة الوَعي المضادة، والتَحَصُّن جيدًا لعدم الانجرار وراء ما يبتغيه أعداؤنا لطمس قضيّتنا المقدّسة، ولكي لا نكون لقمة سائغة في فَمِ المُتَرَبّصين كما فعل شركاؤنا في أوطاننا، ولضمان استدامة قضية المقاومة، وإرساء قيَم المواجهة والثبات والعزيمة لدى شعوب أمّتنا والشعب الفلسطيني، حتى نصل في الختام إلى التحرُّر الكبير، ونحتفل بالانتصار الأكبر وهو طرد الغُزاة عن أرضنا والعَيش بسلام.
النص يعبر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة عن رأي الموقع
التعليقات مغلقة.