ورود تُكلل الدماء، وتفرض حولها طوقًا أمنيًا، وهي تجند وريقاتها لصون الطهارة التي أضفاها الدم على هذه البُقعة، وتُطلق الشوك من جزيئاتها لينقض على جند العدو حتى يصيبهم بنزف لا صحوة منه، كل هذا وأكثر وثّق بالدم الطاهر في جنين ومخيم صمودها، في أعقاب نصرٍ سطر بالدم، وآخر آتٍ في أفق يعلو به الشهداء حيث السماء التي شرعت باستقبال أقمار جنين الذين تسابقوا إلى الشهادة في خضم يومين من اجتياح العدو الصهيوني للمدينة.
العدو الصهيوني الذي هُزم على أرض جنين، ولم يتمكن من التوغل في مخيمها العصي عليه، لينتهي به الأمر مذلولًا وهو يجمع أشلاء قطعانه الذين أردتهم المقاومة أرضًا، ليتوارى خلف آلة حربه الإرهابية ويقول “إننا خسرنا جنديًّا واحدًا، وحققنا أهدافنا” لتكذبه طلقات المقاومة التي اخترقت أجساد جنده النجسة في خضم يومين عاشوا فيهما جميع أصناف العذاب، لُيذكروا قادتهم كلما غفلوا بأن المخيم كان وسيبقى محرمًا عليهم.
حكاية الاجتياح والعدوان الإرهابي الذي شنه الصهيوني بدأت فجر يوم الثالث من تموز/ يوليو الجاري، عقب تحركات لجند ودبابات العدو، رافقها تسلل طائرات مسيرة إلى أجواء المدينة ومخيمها، وقصف أحد المنازل، قبل الاجتياح من عدة محاور، ومن ثم شن غارات متتالية، ودس “قوات خاصة” وإرسال تعزيزات “عسكرية” ألقت بأكثر من ثلاثة آلاف جندي وضيع أرضًا رفقة كلاب على شاكلتهم، وآليات مصفحة، وجرافات مدرعة، وأطلقت عشرات الطائرات المسيرة والأباتشي، ليحقق العدو مسعاه في القضاء على المقاومة لكنه قد خسئ هو ومن يشد على يده.
وهذا ما أثبتته المقاومة في الميدان، رغم أن أسلحتها متواضعة أمام ترسانة العدو وآلة حربه الإرهابية، إلاّ أنها تهزمه دومًا، فحين تترجل الأسود يُهزم الدنيء، وبالرصاص العفيف والعبوات الناسفة المباركة تصدّت المقاومة للعدو، وأسقطت حتى طائراته التي أرسلها لجوها، في معركة “بأس جنين” المدينة “التي لم تسجل في تاريخها إلاّ جهادًا وقتالًا يحمل بسالة الشهداء” وفقًا للناطق العسكري باسم سرايا القدس أبو حمزة الذي أكد انتصار المقاومة أمام “حشد العدو الذي كان مدججًا بكل أسباب القوة جوًا وبرًا بطائراته ونخبته وآليته…”.
وقبل الحديث عن الانتصار لا بد من ذكر ابن الخليل المقدام عبد الوهاب الخلايلة الذي ترجل لينتزع ثأر مخيم جنين، من المغتصبين الصهاينة في الداخل المحتل تحديدًا في يافا وضواحيها منفذًا عملية مزدوجة طعنًا ودهسًا، أسقطت أكثر من عشرة مستوطنين بإصاباتهم.
العملية وقعت قبل انتصار جنين ومخيمها بوقت ضئيل، انتصارها الذي صفع الكيان الصهيوني وجعله يُصدّر روايات واهية وكاذبة كي لا يتعرى أكثر بتعريه، ويُفتضح أمر جيشه المُفتضح الذي فرّ حتى قبل أن يلملم جثث جنوده الذين أسقطتهم المقاومة بكمائن الموت كما يحلو لها أن تسميها وتترجمها فعلًا على الأرض بقتل جند بني صهيون بعبوات ناسفة أبرزها من نوع “التامر” و”الطارق”، وصليات الرصاص، وإيقاعهم بأحزمة نارية، لتنقلب معادلة العدو عليه وينتهي به الحال بتجرع مرارة هزيمته التي اعتادها بكل فشل وعجز يُضاف لكيانه، وكما أشار أبو حمزة إلى تحول عدوانه الواهي (الحديقة والمنزل) إلى حريق ولهيب جندل جنوده المهزومين”.
وانتصرت جنين ومخيمها الأسطورة رغم استهداف العدو للمدنيين والمشافي واعتدائه على الطواقم الطبية، وسط الحطام والدمار الذي خلفه العدو، والمنازل التي سواها القصف بالأرض، والشوارع التي جرفها جرفًا والمركبات والبنية التحتية التي دمرها، وبيوت الله التي لم تسلم من همجيته.
ومع كل ذلك خفضت دول عربية من صوتها وباستحياء عاهر استنكرت ما يقترفه الكيان الصهيوني واصفة إياه بالعنف والانتهاك، تخيلوا أن تلك الجرائم الفادحة التي شهدتها جنين ومخيم صمودها لم تتعدَّ الانتهاكات والعنف بالنسبة للأردن ومصر والسعودية وغيرها من الدول التي تورطت أنظمتها بالتطبيع مع الكيان وهي تسقط بوحل الخيانة.
والمفارقة أن تلك الدول ذاتها التي وصفت جرائم العدو بالانتهاكات والعنف والاعتداءات، إن عدنا لبياناتها؛ سنجد كيف اتهمت عمليات المقاومة البطولية التي نفذها شبان أحرار بأنها “إرهابية”، وللأمانة ليس من أمر يثير الصدمة هنا فماذا نرجو من أنظمة تحمي الكيان وتفتح له أبوابها وتقيم له سفارات، وتعزز علاقاتها الاقتصادية والتجارية وغيرها معه علنًا وسرًا، وبالنهاية تدّعي العروبة.
وأما العالم فسأعيد ما دونته سابقًا عنه، رغم أنني لا أهوى الإعادة لكن الجريمة ذاتها، ولا جديد سوى أن أداتها في تطور، والفُجر في ارتكابها يتعاظم، وحتى مسرح الجريمة ذاته. والمجرم هو ذاته منذ أكثر من سبعين عامًا، يسفك دماءنا، ويغتصب أراضينا، وكل جرائمه موثقة كما الجرح في فؤادنا موثق، لكنه لم يُحاكم وما زال يرتكب أفظع جرائمه من اجتياح وغدر وإعدامات واغتيالات بوحشية على مرأى العالم. عفوًا لقد سقطت كلمة العالم منّي سهوًا، لا أحد يرى رغم أن الجميع يُبصر، فهذا العالم تتوقف إنسانيته عند الغرب، فلو كانت مثلًا جنين في أوكرانيا لتعالت أصوات العربان قبل الغرب، ولكانت انهالت علينا بيانات الإدانة والاستنكار وهم يمطروننا بالإنسانية وحقوق الإنسان البدعة التي استخدموها لتدمير أوطاننا العربية، فكل ما سبق يعيدنا إلى حقيقة لا شك فيها وسنبقى نكررها ألاّ وهي بأن لا سند للمقاومة بعد الله سوى محورها.
وإن النصر قريب “وتعويضات الله مذهلة” هكذا قال الشهيد ابن كتيبة جنين سميح أبو الوفا، الذي ارتقى في خضم اجتياح جنين ومخيمها، سميح هل تذكرونه! فهو صاحب الصورة التي أطلق عليها الجمعُ أنها الأجمل لعامنا هذا، فهو المقاوم الملثم الذي خرج من نافذة أحد المباني ليمطر العدو بالرصاص إبان اقتحامه مخيم الصمود قبل أشهر، وحينها أوصى بعدم الكشف عن هويته إلا باستشهاده مشتبكًا كما عاهد رفاقه الذين ارتقوا قبله بقوله “عهدًا علينا أن لا ننسى دماءكم، ولا حسرة أمهاتكم، ستبقى دينًا في أعناقنا ما حيينا، إما أن ننتصر، وإما نلتحق بكم…”. كذلك لحق المقاوم محمد الشامي البطل متين الضبايا “الذي ترك بصماته بالشوارع ببسالة الرصاصات” كما خط الشامي في وداعه له، وكما لحق أحمد العامر القائد الميداني في كتيبة جنين رفيقيه الشهيدين البطل يوسف شريم، ونضال خازم، وهو يردد “سلامًا إلى من هاج قلبهم بحب الله فذهبوا إليه ولبوا، فلا قيمة للحياة إن لم نسلك فيها طريقًا يأخذنا للجنان …”.
الجنان التي كانت روح الشهيد المقاوم في الكتيبة أيضًا علي الغول تشتهيها، وروحه تتوق إلى الرحيل وفق ما نشره في وقتٍ سابق، ليمضي مع أوس حنون رفيقه في الكتيبة الذي أجاب الله لمبتغاه بأن لا يكن عابرًا ويهبه حسن الختام وطيب الأثر، كما المقاوم مصطفى القاسم الذي كان يدعو الله أن يجمل أيامه بنيل الشهادة. الشهادة التي تمناها أيضًا المقاومان عبد الرحمن حردان، وحسام أبو ذيبة الذي كان يقول دومًا إنه يريد أن يستشهد، والمقاوم عدي خمايسة الذي دعا ربه أن يكتب له ما يتمنى فكانت الشهادة له، وأما كابوس المخيم كما كان يُطلق على نفسه الشهيد نور الدين مرشود ابن السادسة عشرة عامًا فتحول إلى كابوس للاحتلال حين قاتله بابتسامة هزت جنوده وهو ممسك بالبندقية.
العدو خطف أيضًا روح جواد نعيرات، ليكُن آخر ما نشره قبل استشهاده دعوة للنفير العام إلى مدينة جنين ومخيمها خاتمًا إياها بـ “علينا التوجه بمسيرة إلى مدينة جنين ومخيمها العنيد لنشكل درعًا بشريًا، وضغطًا على أبناء اليهود القردة والخنازير، في مؤازرة إخواننا في مخيم جنين، فإن لم نقدر على مساندتهم بالسلاح فلنسنادهم بأجسادنا كما عاهدناكم وعاهدكم مخيمكم الصامد فلا تخذلوه ولا تطعنوه فليعم النفير ويعلو صوت التكبير”.
أما مجدي عرعراوي المقاوم في وحدة الهندسة بكتيبة جنين، فقد نال الشهادة الأعظم في وقت كان يستعد فيه لتسلم شهادة الثانوية العامة التي كانت قد شارفت امتحاناتها على الانتهاء.
وهذا جزء بسيط جدًا عن الاثني عشر شهيدًا الذين ارتقوا في أعقاب اجتياح جنين الذي استمر ليومين، وكما كل الشهداء كل الكلمات لا تكفي في حضرة الحديث عنهم.
هؤلاء الشهداء قد ارتقوا ولسان حالهم كاد يقول: لا تجزعِي يا جنين فالأبواب فتحت لنا وها نحن مع رفاقنا السابقين نخطط لعذاب أليم لعدوك من سماء الله، وفي فلك تدور فيه النجوم وهي تحمل اسمكِ نُسطر نصرك فلا نصر نحتفي به اليوم في آفاق السماء والأرض غير لجنين و”عش دبابيرها”.
النص يعبر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة عن رأي الموقع
التعليقات مغلقة.