هنا في البلاد المحتلة كما هو معهود، أنبت الدم وردًا أحمر اللون؛ حمل مسكًا عمّت رائحته الوطن في فجر يوم الخامس عشر من حزيران/ يونيو الجاري؛ إذ احتضنت نابلس جثمان الشهيد وهو يعلو على أكف رفاقه المقاومين، متوشحًا بالعلم الفلسطيني رفقة سلاحه “الكارلو” الذي اصطاد به جند العدو، كون هذا النوع من الاصطياد هواية يحترف ممارستها المقاومون.
المقاومون الذين ودعوا، مؤخرًا، خليل الأنيس الذي ارتقى مشتبكًا برفقتهم إبان مواجهتهم لآلة العدو “العسكرية” الإرهابية، حينما قرر أن يأخذ قسطًا من الراحة في الجنان، بعد أن ودع جثمانه جبل النار من وسطه حيث دوار الشهداء إلى غربه في مخيم عين بيت الماء؛ قبل أن يترجل إلى مثواه الأخير على هذه الأرض في مقبرة المخيم وسط طلقات المقاومين الطاهرة.
الأرض هذه التي لم يكُن لخليل العشريني طموح فيها سوى أن يصُونها بدمه حتى يصطفيه الله شهيدًا، كما عمه الذي سُمي خليلًا تيمنًا به؛ إذ طاول السماء في ارتقائه عام 2002 إبان اجتياح الاحتلال للبلدة القديمة في نابلس، وعلى ثراها أيضًا ودع قبل أشهر تحديدًا في نيسان/ أبريل الماضي، المقاومان محمد جنيدي أبو بكر ورفيق دربه محمد سعيد الحلاق اللذين مضى الخليل على دربهما، ووصيتهما بمحاربة العدو، وحماية البلاد.
خليل استشهد في أعقاب تصدّيه والمقاومين لترسانة العدو حين اقتحم آنذاك جبل النار من عدة محاور، والذي لم يفشل في اعتقال أيًا منهم فحسب، بل واجهوه في صمود مذهل، إذ لم يتمكن جند المحتل وقناصوه وطائراته، سوى من الحجارة في حي رفيديا، بتفجيرهم لمنزل البطل الأسير، أسامة الطويل، الذي انتصر عليهم كما قالت والدته الصابرة: “أسامة يا أسد الأسود، هم لم يقدروا على هدم عزيمتك، ولا عزيمة أسرتك، ولا عزيمة الشعب الفلسطيني بشكل عام، فلجؤوا إلى هدم هذه الحجارة والبيوت، وأنا أقول لك إنه بإمكانك أن توزع الحلويات الآن؛ لأنك أنت من انتصرت عليهم، وليس هم من انتصروا، نحن أصحاب حق، وقضية عادلة، وسنبقى أقوى منهم”.
وحتمًا انتصر أسامة، وصدقت والدته، فهذا القيادي في عرين الأسود، القابع في غياهب سجون العدو منذ يناير/ كانون الثاني المنصرم؛ لقتله أحد قطعانه، بتنفيذ عملية مغتصبة “شافي شمرون”، في أكتوبر/ تشرين أول 2022، والذي جعل المحتل يذوق الويلات، لأشهر، وأيام، وساعات، وهو يُسقط جنوده حتى وصل لأسامة كما يظُن، لكنه قسمًا لم يصِل، وإن اعتقله جريحًا، فهذا أسد الأسود وكما خطّ “المقاومة مستمرة اليوم عرين وغدًا الكتائب، اللّهم ثبات نصر أو استشهاد”.
أسامة لطالما انتقد كل انهزامي عميل، وسأضع اقتباسًا مما كتب دون تنقيح، فمن أنا لأعيد صياغة ما خطّه بطل كأسامة بقوله: “كل هذا الدم وبدك يرجع الوضع طبيعي، الدم إللي ضحوا فيه الشهداء، والجرحى عشان تعيش بكرامة وكأن شيئًا لم يكُن، وكأنه الوضع الذي نعيشه ليس هو الواقع الطبيعي إللي لازم يكون؟ عمي هذا الوضع الطبيعي، وزيادة إللي هو نقاتل حتى آخر نفس لنحرر الأرض، ونثأر لدم الشهداء، ومكملين ومش راح نرحل، ولا نهادن، ولا ننزل رؤوسنا، وهذه حالة مستمرة ليست فترة وستنتهي، وإللي بفكرها ستنتهي، بكون مش نظيف وخائن، دم الشهداء إللي نزل لن يذهب هدرًا، وواجبنا نكمل دربهم لآخر نفس”.
وبالعودة إلى الخامس عشر من حزيران؛ فإن ما جرى يأتي عقب أقل من 48 ساعة، شهدت فشل المحتل المعتاد في النيل من المقاومين؛ حيث اقتحم هذا الساقط شرقي جبل النار تحديدًا مخيم بلاطة رفقة عشرات دباباته وطائراته، وجنوده المدججين بالسلاح؛ بغية اغتيال المُطارِد عصام صلاج، أبي آدم، فحاصروا المنزل الذي تحصن به، واشتبك معهم والمقاومون في بلاطة لأكثر من ثلاث ساعات، انتهت بدحر العدو وإحباط خطته باعتقال صلاج الذي خرج من تحت الركام الذي اشتعل بالنيران بعد أن استهدفه العدو بصواريخ “الإنيرجا”، منتصرًا مبتسمًا رافعًا شارة النصر، وكأن سلاحه يُردد بالرصاص “خسئتم فنحن من نُحاصركم ونُطاردكم”.
كذلك صدحت طلقاته والمقاومين الأبرار، في خضم تشييعهم للشاب فارس حشاش الذي ارتقى مشتبكًا في مواجهة جيش العدو حينها، إذ قدم حشاش الشهادة هدية لوالدته التي لم يُبلغها بأنه في الميدان يُقارع المحتل، حتى سمعت نبأ نيله ما تمنى، لتعمل جاهدة على تنفيذ وصيته بنقش صورته بجانب أقمار البلاد الذين سبقوه إلى الجنان.
وبالتزامن مع ذلك كانت جنين تتحضر للرد فهي لا تُضيع ثأرًا فحسب بل تحترف حتى انتزاعه، فالشهيد منّا يُقابله قطعان من العدو، وهذا ما جرى بعملية مزدوجة استهدفت مركبة كانت تقل مغتصبيه، وطلقات صوّبت على جنوده، ليسقط أكثر من 4 منهم، قبل أن يترجل المنفذون بسلامٍ من الموقع الذي كان على مقربة منها.
كل ما سبق يؤكد أن العدو يُعيد كرة فشله دومًا في النيل من المقاومين، فغالبية جرائمه واقتحاماته الساحقة لا تفلح باغتيال أو اعتقال أحد الأبطال الذين يكمنون له حينما يظن أنه من يكمن لهم.
فإن عُدنا للأسبوع الماضي وحده سنجد عشرات من أعمال المقاومة التي استهدفت بني صهيون، كالمعتاد في هذه البلاد التي تنتصر دومًا رغمًا عن أنف الاحتلال الإرهابي، الذي باتت هزيمته وأذنابه بالمنطقة وشيكة كما تعدُ المقاومة ومحورها الذي لا نُصدق سواه.
النص يعبر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة عن رأي الموقع
التعليقات مغلقة.