لم يعبر تاريخ الخامس والعشرين من أيار عام 2000 عبورًا عاديًا في ذاكرة اللبنانيين عمومًا والجنوبيين خصوصًا، ولم يكن هذا اليوم كغيره في رزنامة الأمة. عنده توقف الزمن قليلًا، رمى بثقل القهر والظلم الذي أنهكه على مدى عقود من الاحتلال والذل، لتبدأ معه أيامٌ مليئة بالعز، ولّت على إثره الهزائم، وتشرّف تاريخ الأمة بالانتصارات.
جنوبيون تعرفهم تلال ووديان جبل عامل، وتردد السماء أصداء صيحاتهم، أعاروا الله قلوبهم وجماجمهم فنصرهم الله وثبت في الأرض أقدامهم، سطّروا بدمائهم وجراحهم وصبرهم أسمى آيات النصر التي رفعت رأس العرب أجمعين، فكان الخامس والعشرون من أيار عيدًا للتحرير وموعدًا مع تاريخ جديد من الانتصارات.
عيد التحرير الأول.. بعيون الجنوبيين
إن كان وقع النصر الأول مؤثرًا جدًا على اللبنانيين والعرب عمومًا، فإن للجنوبيين طقوسهم ومشاعرهم ومواقفهم الخاصة بهذا العيد تحديدًا، كيف لا، وهم الذين عاشوا تفاصيل الاحتلال وتحمّلوا القهر والعذاب، وقاوموا في سبيل تحرير الأرض باذلين لذلك أرواحهم وكل ما ملكوا.
لعيد التحرير لون آخر لدى أهالي القرى التي عاشت أحداث الاحتلال الصهيوني، وكلما سألتهم عن تفاصيلها رأيت علامات الغضب تلف وجوههم مع سردهم لها، لتتبدل بعدها الملامح كلما ذكروا سيد المقاومة وعملياتها وإنجازاتها، لتعلو أخيرًا ابتسامة عز على وجوههم خاتمين حديثهم بعبارة “جاء الخامس والعشرون من أيار ورأينا “إسرائيل” مدحورة مذلولة”.
الحاج “أبو علي”، أحد الجنوبين الذين عاشوا أيام الاحتلال الصهيوني ولم يفارق قريته الواقعة ضمن قضاء مدينة صور طيلة تلك الفترة، يروي لنا قصصًا من ذاك الزمن، وكيف كانت قوات الاحتلال تمارس أشد أنواع التعذيب والتضييق والتعدي على سكان القرى، “حيث كان كل شيء مباحًا بالنسبة لهم، الحواجز كانت تملأ القرى، والخروج والدخول من وإلى المنطقة المحتلة كان معقدًا جدًا، فضًلا عن التحقيق القصري مع كل مواطن يرفض التعامل معهم، حيث كانوا يقومون بالتحقيق معه كل أسبوع، والكثيرون منهم حبسوا ظلمًا في معتقل الخيام دون أن يتمكن أهلهم من الاطمئنان عليهم”.
وعن عمليات المقاومة، يضيف الحاج أبو علي قائلًا: “كنا كلما سمعنا عن عملية للمقاومة استبشرنا خيرًا، وكنا ننتظر نشرات الأخبار المسائية على قناة المنار بترقب وفرح. لم يغادرنا الأمل بالنصر للحظة، وكان لدينا يقين بأن النصر قادم بإذن الله”.
هذه القصص يرويها الجنوبيون لأبنائهم كلما أتت ذكرى التحرير، يصفون لهم أول مشاهد التحرير بدقة، وملامح ذاك الفجر الذي تغيّر على إثره الزمن، وكأنها أصبحت جزءًا من ذاكرتهم تتناقلها الأجيال جيلًا بعد جيل، لتبقى بصمة عز في تاريخ الأمة.
المقاومة الحاضرة: قبل التحرير وبعده
رسمت المقاومة طريقها بدقة، حققت النصر الأول الذي شكّل القاعدة الثابتة لكل الانتصارات التالية، إلا أنها كانت أيضًا على أتم الاستعداد لمواكبة المرحلة التي تلت التحرير بكل تفاصيلها.
لم يقتصر دور حزب الله، ومنذ الفترات الأولى لانطلاقته على الشق العسكري لحماية لبنان فقط، بل كان عبارة عن منظومة عمل متكاملة مقاومة على كل الجبهات، وقد أثمرت جهوده إنجازات عديدة وكبيرة في ميادين عدّة.
وفي هذا السياق، كان لا بد من الإضاءة على أهم الإنجازات التي حققها حزب الله في المرحلة التي تلت التحرير الأول مباشرةً، لا سيما على الصعيد الإنمائي والاجتماعي والثقافي والصحي في المناطق التي كانت محتلة.
وفي هذا الإطار كان لنا مقابلة مع فضيلة الشيخ حيدر حيدر، وهو مسؤول في ميدان العمل الاجتماعي لحزب الله في منطقة الجنوب. أوضح فضيلته أن “المنطقة التي كانت محتلة سابقًا قبل العام 2000 كانت تقريبًا مهملة، وقد كان لحزب الله دوره في تنظيم أمور الناس وتقديم الخدمات المختلفة لهم، لا سيما في ظل غياب الدولة ومؤسساتها“. وأضاف “تجلى هذا الدور على الصعيد الصحي بإعادة تأهيل المستشفيات الموجودة في المنطقة، وافتتاح مراكز صحية تابعة للهيئة الصحية الإسلامية في مناطق عديدة، فضلًا عن المستوصفات النقّالة بين القرى، حيث كانت تقدم خدمات صحية مختلفة للناس”.
أما على الصعيد الاجتماعي، فقد قال سماحته إن “حزب الله قدّم خلال تلك الفترة تحديدًا العديد من المساعدات الاجتماعية للعوائل المتعففة، ومن الناحية الإنمائية، سعى لإعادة تأهيل البنى التحتية في العديد من القرى، لا سيما تلك التي لا مجالس بلدية فيها، عبر تعبيد الطرقات وتأمين المياه والكهرباء وشبكات الري الزراعي وغيرها من الإجراءات..”.
وعلى الصعيد الثقافي، ذكر الشيخ حيدر أنه “كان لحزب الله دور اساسي في نشر الثقافة الاسلامية والدينية وتعزيز الفكر الاسلامي لدى الناس، لا سيما وأن حضور العلماء ورجال الدين خلال تلك المرحلة في القرى كان محدودًا بسبب حالات القمع والاضطهاد، فسعى حزب الله إلى إقامة المراكز الثقافية وإعداد الدورات الدينية والتثقيفية، فضلًا عن تعزيز دور العلماء في القرى والمساجد، بالإضافة التي الاحتفالات المستمرة التي ينظمها المعنيون في كل مناسبة دينية ووطنية لا سيما تلك المتعلقة بإحياء الشعائر الحسينية”.
كتب الجنوبيون تاريخًا مشرفًا للعرب أجمعين، أعادوا للأمة العربية والإسلامية كيانها وعروبتها التي سقطت مع تخاذل البعض وتآمرهم، صنعوا ميلادًا جديدًا لهم بعد أن قدموا في سبيله أغلى ما لديهم، وسطّروا دروسًا عظيمة في مقاومة الظلم والقهر والاحتلال، ومن جنوب لبنان، جنوب العز والمقاومة إلى كل بقاع الأرض، كل نصر وأنتم بخير.
النص يعبر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة عن رأي الموقع
التعليقات مغلقة.