للمرة الأولى منذ عقود كانت القمّة العربية حدث شدّ إليه الأنظار، فالزمان هو بعد اتفاق بكين الذي فتح صفحة جديدة في المنطقة من العلاقات الطبيعية بدأت بين الجارين اللدودين إيران والسعودية وانسبحت إلى سوريا واليمن وصولًا إلى لبنان، بلد التناقدات والأزمات.
ففي الشكل، كانت قمّة الرئيس بشار الأسد، بعد غياب سوريا لأكثر من عقد بعودة كانت الدولة المضيفة، المملكة العربية السعودية، عرابها، رغم الإنزعاج الغربي وانقسام العرب بين معترض وغير متحمس، إلا أن ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان أظهر قدرة سياسية تجلّت في إدارة القمّة ومقرارتها في البيان الختامي، الذي كان مختلفًا بالشكل والمضمون، ومناقشة القضايا والانفتاح العربي الذي تجسّد بكلمة الرئيس الأسد وبُعدها القومي وعمقها الاستراتيجي، والحرص على الأمة العربية ودورها والإنسان فيها، متجاوزًا بعض المواقف الهامشية المحكومة لخلفيات استعمارية وقلق على المصير وربط مصير المنطقة ورهنه بمشاريع تخدم السيطرة على البلدان العربية وتجرها إلى لعبة صراع الأمم في عالم ملتهب يعيش حربًا عالمية ثالثة لا زالت محصورة في الجبهة الأوكرانية وتدور رحاها الاقتصادية حول العالم، وخلّفت أزمات اقتصادية وانهيارات مالية وتراجع في الأسواق العالمية.
يأتي ذلك في ظل انشغال الأميركي بانتخاباته النصفية القادمة خلال أشهر، وهو لازال تحت تأثير الدورة الأولى وأزمة الكابيتول وملاحقة الرئيس السابق دونالد ترامب قضائيًا، وسط ضبابية في النتائج لم تحسمها استطلاعات الرأي أمام قوة روسيا في الميدان السياسي والاقتصادي وعلى الجبهة بكيفية إدارة المعركة الحربية والاستفادة من كل ثغرة دون الوقوع في فخ الغرق في الاحتلال واستنزاف جيشها الذي يعمل على تدمير البنية العسكرية لأوكرانيا وضرب أهداف محددة معتمدًا عملية القضم التدريجي للأراضي بعد محاصرتها وتفريغها من نقاط القوة بالاتكال على قوة دفاع قوامها آلاف الجنود المدرّعين للدفاع عن روسيا وحماية استراتيجيتها بعد الحديث عن استعداد الناتو لمشاركة أوكرانيا في هجوم مضاد على روسيا.
من هنا، لم يأتِ حضور الرئيس الأوكراني قمة جدة بالنتائج التي أرادها الغرب من الزيارة، ومحاولة إحراج الرئيس بشار الأسد، الذي كان بلا منازع نجم القمّة حضورًا وكلمة، عكس ما ظهر فيه زيلنسكي ودوره ومطالبته العرب الوقوف مع قضية أوكرانيا التي تدفع ثمن انقلاب أسياد زلنسكي في الغرب بواسطة الثورة البرتقالية التي أوصلت أوكرانيا إلى حرب مع روسيا، أرادت أميركا عبرها محاصرة روسيا التي تعتبرها خطرًا حقيقيًا على الدور الأميريكي بقيادة العالم منفردة بثقافة الحروب والسيطرة الاقتصادية وسيف العقوبات الدولية، التي تدفع أميركا نفسها ثمنها على شكل انهيارات مصرفية، في حين يدفع الأرووبيون، حلفاء أميركا، ثمن العقوبات الأميركية على روسيا وإيران ركودًا اقتصاديًا وعجزًا، ما انعكس سلبًا على اقتصاد اليورو، يدفع ثمنه المواطن الأوروبي.
وبالعودة إلى مقررات القمّة، فقد كانت متناسبة مع المرحلة، وحاولت ملامسة قضايا الأمة العربية وشعوبها، من ليبيا إلى السودان وسوريا واليمن وصولًا إلى لبنان، الذي كان موضوع نقاش جدي، إذ أكّد بيان القمة حق اللبنانيين في تحرير أو استرجاع مزارع شبعا وتلال كفر شوبا اللبنانية والجزء اللبناني من بلدة الغجر المحتلة، مؤكدًا حق لبنان في مقاومة أي اعتداء بالوسائل المشروعة.
كذلك، أكد البيان على أهمية وضرورة التفريق بين الإرهاب والمقاومة ضد الاحتلال الإسرائيلي، باعتبارها حقًا أقرته المواثيق الدولية ومبادئ القانون الدولي، ما يُعتبر تراجعًا عربيًا عن المواقف المتخذة ضد المقاومة، وهو تصحيح لما اعتمد منذ العام 2016، إذ يُنهي هذا البيان الجدل حول المقاومة و دورها في لبنان في مواجهة الاحتلالين الصهيوني و التكفيري. فهل يؤسّس هذا لمرحلة جديدة من التعاطي الداخلي بين اللبنانيين أنفسهم؟ أم أن قرار اللبنانيين متروك للتسويات الخارجية؟ خصوصًا وأن لبنان ليس على جدول الأعمال الأميركي، بحسب بيان وزارة الخارجية الأميركية الذي صدر متزامنًا مع انعقاد مؤتمر القمّة، حيث أشار المتحدث باسم وزارة الخارجية الأميركية أن العقوبات على سوريا ستستمر ونسعى لرؤية ظروف افضل لعودة النازحين وهي غير متوفرة حاليًا. فهل هذا الكلام الأميركي سيكون موضوع بحث مع أمير قطر الذي سيزور أميركا اليوم الاثنين، نظرًا لما تظهره قطر من دور لازال معاديًا لسوريا وغير متوافق مع سياسة الانفتاح السعودية. ويرى مراقبون أن قطر سيكون لها دور ربما لا يخدم الإجماع العربي، فهل سينعكس على المنطقة وعلى لبنان تحديدًا؟
النص يعبر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة عن رأي الموقع
التعليقات مغلقة.