قبل يومين، قام وزير الدفاع الأميركي لويد أوستن بزيارة مفاجئة إلى بغداد. الزيارة التي لم تكن معلنة مسبقًا لأسباب أمنية، جاءت ضمن برنامج جولته الشرق أوسطية التي بدأها الأحد الفائت من الأردن، على أن تشمل مصر والأراضي المحتلة، وذلك في سياق إقليمي معقّد يراوح مكانه بين الانفراج والانفجار.
وسط هذا المناخ السياسي المتقلب في المنطقة، والعالق بين الاحتمالات المختلفة في خضم الصراع المزمن بين طهران، من جهة، وواشنطن، وحلفائها الإقليميين من جهة ثانية، باتت #بغداد تحتل دورًا دبلوماسيًا رائدًا على المستوى الإقليمي مع نجاحها في استضافة خمس جولات من الحوار بين طهران، والرياض، باعتبارهما قطبي الصراع في الشرق الأوسط. وبدا لافتًا، زيارة وزير الخارجية السعودي فيصل بن فرحان إلى بغداد في شباط/ فبراير الماضي، بعد ما أُشيع عن بوادر إيجابية لاحت على مستوى العلاقات السعودية- الإيرانية بعد لقاء وزيري خارجية السعودية و #ايران على هامش مؤتمر “بغداد للتعاون والشراكة” في ديسمبر/ كانون الأول الماضي. وفي الشهر نفسه، حط رئيس الحكومة العراقية محمد شياع السوداني رحاله في العاصمة الإيرانية، في زيارة وضعها مراقبون ضمن سياق استعدادات جارية لإعادة تنشيط الدور العراقي في رعاية جولة جديدة من الحوار السعودي – الإيراني قريبًا.
وفور وصوله إلى العاصمة العراقية، الذي جاء قبيل الذكرى العشرين للغزو الأميركي للعراق في 20 مارس/آذار الجاري، أعاد أوستن التأكيد على ما وصفه بـ “الشراكة الاستراتيجية بين الولايات المتحدة والعراق”، في إطار إظهار واشنطن رغبتها في الحفاظ على وجودها العسكري على الأراضي العراقية تحت ذريعة محاربة “تنظيم داعش”، على الرغم من إعلان العراق أواخر العام 2021 إنهاء الوجود القتالي للقوات الأميركية على أراضيه، وحصره بمهام استشارية. وقبل زيارة أوستن للعراق، كان رئيس هيئة الأركان الأميركي الجنرال مارك ميلي يقوم بزيارة إلى الشمال السوري، كمؤشر دعم لـ “قوات سوريا الديمقراطية” تحت العنوان نفسه. وبحسب محللين، تحاول واشنطن، مع دخول الحرب في أوكرانيا عامها الثاني، التأكيد لحلفائها الإقليميين على التزاماتها تجاه المنطقة، وتوجيه رسائل “مشفّرة” إلى الإيرانيين، رغم إقرارها بأولوية الاستعداد لمواجهة مع كل من بكين، على وقع انخراطها في مواجهة غير مباشرة مع موسكو.
ورغم طغيان الطابع العسكري والأمني على تصريحات وزير الدفاع الأميركي، عقب لقاءاته مع المسؤولين العراقيين، إلا أن إدارة الرئيس الأميركي جو بايدن تضع نصب أعينها ملفات اقتصادية وسياسية أخرى لا تقل أهمية. فالإدارة الأميركية تحاول التأثير في تطورات الحوار السياسي الذي ترعاه بغداد بين طهران والرياض، أسوة بتمسكها بلعب دور ما خلف الكواليس في حوار موازٍ، بنكهة ميدانية، تدور رحاه بين العاصمتين برعاية عمانية حول ملف الحرب في اليمن. وضمن هذا التوجه، تشير صحيفة “نيويورك تايمز” إلى أن البند المتعلق بالعلاقات العراقية الإيرانية كان بمثابة كلمة السر الخفية في زيارة أوستن لبغداد، ذلك أن واشنطن تدفع حلفائها العراقيين إلى المضي قدمًا في خطط الاستغناء التدريجي عن تعاملاتهم التجارية مع إيران، لا سيما في قطاع الطاقة والكهرباء، والتي كانت أحد أسباب اضطرار الإدارات الأميركية المتعاقبة في إعفاء بغداد من الالتزام بالعقوبات ضد طهران. وكما هو معلوم، يستورد #العراق نحو 20 مليون متر مكعب من الغاز الإيراني يوميًا لأغراض توليد الطاقة الكهربائية، إذ تصل إلى 70 مليون متر مكعب يوميًا في فصل الصيف. وكانت وزارة الطاقة العراقية قد أقرت خططًا لإنشاء منصات للغاز المسال لتحويله إلى غاز جاف، بالإضافة إلى بناء شبكة أرصفة وأنابيب متخصصة في نقل الغاز إلى محطات الكهرباء، توازيًا مع البحث في استيراد الغاز من دول أخرى غير إيران، وفي مقدمتها قطر للتخفيف من اعتمادها على طهران على هذا الصعيد. وفي الأسابيع الأخيرة، دخل العراق في محادثات مع شركات أميركية، وفق خطة خماسية، بهدف المساعدة على استغلال ما يُعرف بـ “الغاز المصاحب”، الذي يتم هدره خلال عمليات الإنتاج، والمقدرة بحوالي 18 مليار متر مكعب، بقيمة تصل إلى 6.5 مليار دولار. وفي إطار تشجيعها على وجود احتضان عربي غير مألوف لبغداد منذ العام 2003، ترغب الولايات المتحدة في تسريع الخطوات العراقية للانضمام إلى مشروع الربط الكهربائي الإقليمي مع الأردن والسعودية ودول الخليج لإبعاده عن “النفوذ الطاقوي” لطهران.
كذلك، تستطلع واشنطن فرص التعاون المحتمل بين الحكومة العراقية وموسكو بعد فرض عقوبات غربية عليها بسبب حرب أوكرانيا، من أجل تحذير بغداد من مغبة عدم التزامها بنهج العقوبات الذي يتبناه الغرب ضد روسيا، في وقت لا تبدي فيه الحكومة العراقية برئاسة محمد شياع السوداني رغبة بإقحام البلاد في الاصطفافات الدولية ولعبة المحاور، وهو أمر أكد عليه وزير خارجيته فؤاد حسين لدى لقائه نظيره الروسي سيرغي لافروف في بغداد في شباط/ فبراير الماضي. وكما هو معلوم، فقد تمكنت الشركات الروسية خلال السنوات الأخيرة من إيجاد موطئ قدم لها داخل السوق العراقية، لا سيما في قطاع النفط، فضلًا عن الدور الأمني الذي يلعبه العراق إلى جانب #موسكو ، ودمشق، و #طهران ضمن إطار “المركز الرباعي التنسيقي”، إلى جانب ما تبديه قيادات عسكرية عراقية في غير مناسبة حول اهتمامهم بشراء أسلحة روسية. فأي انعكاسات ستحملها زيارة وزير الدفاع الأميركي لبغداد على علاقاتها مع طهران، وموسكو؟
النص يعبر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة عن رأي الموقع
التعليقات مغلقة.