يغرق العالم اليوم وأكثر من أي وقت مضى، بمشاهد المعارك والحروب التي اتخذت وجوهًا عدة ومتشعبة، إذ لم تعد “الصورة العسكرية” هي الدلالة النمطية الوحيدة على وقوع الحرب أو على معالمها، بل ثمة صور عديدة جديدة – قديمة لها، تعتبر في الكثير من الأحيان أكثر خطورة وفتكًا من النمط العسكري.
الحديث هنا إذًا عن نوع آخر من الحروب، أو وجه آخر من وجوهها، وهي ” الحرب الناعمة” التي يعول عليها أصحابها لتحقيق أهدافهم التي عجزت الحروب الصلبة عن تحقيقها. والأمثلة عليها عديدة، إذ ما دامت أميركا الشيطان الأكبر موجودة في هذا الكوكب، والمدبر الأول لجميع أشكال الحروب فيه، فإن الحروب ستظل قائمة، فحيثما وجدت اميركا وجد الخراب والدمار، الصلب والناعم، والساحة اللبنانية واحد من أبرز الشواهد .
معالم الحرب الناعمة الأميركية في لبنان
لم تكن الحرب الناعمة المشنّة على لبنان وليدة الساعة، بل هي قديمة جديدة، بدأها الأميركي عندما وصل لقناعة تامة أن الحرب الصلبة التي يقودها العدو الإسرائيلي نيابةً عنه، لم ولن تؤتي أُكُلها، وأن الاستثمار في هذا النوع من المعارك، رغم استمراره، لم يعد كافيًا وحده.
وبالحديث عن لبنان، فإن تاريخ الحرب الناعمة التي تشنها أميركا عليه تجسّد بمحطات عديدة، بدءًا من محاولاتها لتقديم مساعدات عينية للبنانين إبان قيامها بإنزال عدد من قواتها على شواطئه عام 1958، وسعيها لنشر الثقافة الأميركية في المجتمع اللبناني بحكم أن لبنان بلد منفتح على جميع الثقافات والدول.
بعد ذلك، تطور هذا الوضع إلى أن وصل إلى حد إصدار الأمم المتحدة القرارين 1559 و1701، الأول يقضي بانسحاب القوات السورية من لبنان، في محاولة لرد اعتبار أميركا ومعها الغرب (خاصة فرنسا) بعد رفض النظام السوري بقيادة الرئيس بشار الأسد الانصياع للإدارة الأميركية من جهة، والضغط على المقاومة لتجريدها من سلاحها بشكل يعطي الكيان الصهيوني حرية التحرك العسكري، وللأميركي صلاحية التدخل الدبلوماسي والسياسي.
أما القرار الثاني، والذي صدر إبان حرب تموز 2006، فقد كان محاولة لوضع المقاومة في إطار الهزيمة السياسية، بعد تحقيقها النصر العسكري التاريخي على الكيان الصهيوني. وما لم تستطع أميركا تحقيقه بالحرب الصلبة، سعت لتحقيقه بالحرب الناعمة، حيث دعا القرار إلى تطبيق أهم بنود القرار السابق (1559) والذي قضى بنزع سلاح المقاومة وتدميرها بهدف تعزيز أمن الكيان الغاصب إسرائيل وحمايتها وتحقيق أطماعها في لبنان.
أضف إلى هذين القرارين، القرار رقم 1757، والذي بموجبه تأسست ” المحكمة الدولية الخاصة بلبنان” بهدف محاكمة قتلة الرئيس رفيق الحريري ورفاقه، وقد أدرج قرار التأسيس تحت الفصل السابع لجعله إلزامي التنفيذ، وبذلك يكون لبنان معرضًا للعقوبات السياسية والاقتصادية وقد يصل الأمر إلى حد التدخل العسكري في حال عكوفه عن تنفيذ القرار، لتحل المحكمة بذلك مكان السلطة الدستورية اللبنانية، وفي هذا الأمر خرق واضح للسيادة اللبنانية الدبلوماسية والسياسية.
أساليب متعددة.. والهدف واحد
لم تكن الشواهد المذكورة أعلاه المعالم الوحيدة على الحرب الناعمة التي تخوضها أميركا في بلادنا، فثمة أساليب أخرى “تقليدية” لجأت إليها الإدارة الأميركية ولا زالت، لتحقيق أهدافها الشيطانية بأيادٍ داخلية وخارجية.
تتشعب هذه الأساليب في ميادين متعددة، وتنخرط جميعها تحت عنوان “المساعدات والمبادرات الأميركية للبنان”، ومنها على سبيل المثال لا الحصر، المشاريع التنموية الزراعية التي تقدمها الهيئات التنموية الأميركية في الأراضي اللبنانية، فضلًا عن المساعدات العسكرية الخفيفة التي تقدمها للبنان بشكل لا يسمح له بالدفاع عن نفسه في حال تعرضه لأي هجوم صهيوني مثًلا، بالإضافة إلى قيامها بإجراء دورات تدريبية عديدة لضباط قوى الأمن الداخلي وأفرادها.
أضف إلى ذلك، الدعم الإعلامي الهائل الذي برزت معالمه بشكل جلي جدًا في الآونة الأخيرة، والذي يهدف إلى القيام بحملات تحريض وتشويه كبيرة لصورة البيئة المقاومة، وتصب بالتالي في مصلحة مخططات أميركا، وتعد إذًا – في حال تحققت- جولة رابحة من جولاتها في ميدان الحرب الناعمة المشنّة على لبنان وشعبه.
لم تكن هذه الأساليب الوحيدة، ولن تكون الأخيرة، فأميركا التي اعتادت على القتل والدمار والحروب والنهب، لن يثنيها شيء عن الاستمرار بما بدأت به، سوى أمر واحد لا بديل عنه، ألا وهو النضال والمقاومة والوقوف في وجهها هي ومن معها من عبيدها في الخارج والداخل، وأن تدرك هي وأتباعها أن الروح التي اعتادت الجهاد والتحمل والصبر لن تخمدها حروب صلبة ولا ناعمة.
النص يعبر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة عن رأي الموقع
التعليقات مغلقة.