لا تبدأ الحروب الأهليّة في الدول والكيانات عادةً بشكل مفاجئ، ومن دون مقدّمات، وغالباً ما يسبقها شحن وتوتر وتحريض على خلفيات متعددة. هناك مجتمعات تتوفّر فيها بيئة خصبة لاندلاع الحرب، مثل التعدّد الإثني والطائفي والمذهبي والتفرقة العنصرية على أساس العرق أو الدين أو اللون أو الجنس، إلى جانب حالة الاستقطاب السياسيّ والحزبيّ التي تتَّسم بخطورة أكبر عندما تُغلَّف بغطاء أيديولوجي.
ومما يعزّز ضعف المناعة المجتمعيّة هو غياب الهدف الموحّد والقيمة العليا والهوية الجمعيّة التي تحظى بتوافق وشبه إجماع شعبيّ، بغض النظر عن الخلفيات السياسية والدينية والأصول العرقية للمجتمع.
إنَّ الكيانات الَّتي تنشأ بفعل الإحلال والاستيطان على حساب الشعب الأصلي، غالباً ما تفتقد هُويةً جامعةً وغايةً موحّدةً، ما يعزّز هشاشة المجتمع فيها وضعف بنيانه. ما تشهده الساحة الصهيونية منذ عدة سنوات ليس غريباً، ولا يعكس حالة استثنائية من الزاوية الاجتماعية السياسية؛ فعوامل الانقسام والتشظي حاضرة منذ نشأة هذا الكيان الإحلالي على أرض فلسطين.
وعلى الرغم من أنَّ الاحتلال تغلّب حتى الآن على عوامل الفرقة والانقسام داخله، فإنَّ ذلك لا ينفي أنَّ نجاحه مطلق وأبديّ، إذ إنه عالج أعراض الانقسام والاستقطاب الحاد داخله، ولم يعالج جذور الأزمة البنيوية التي يعانيها.
تنبّه العديد من المفكّرين الصهاينة باكراً إلى مخاطر اندلاع حرب أهلية إسرائيلية، ومنهم أفشلوم فيلان، الَّذي أكَّد أنَّ فرص وقوعها قائمة، نظراً إلى الانقسام الحادّ بين المتديّنين والعلمانيين والانقسامات العميقة بين الإثنيات اليهودية المتعددة، وخصوصاً بين الأشكناز (اليهود الغربيين) والسفارديم (اليهود الشرقيين). ويعتبر فيلان أنَّ اليمين المتطرّف يمثّل تهديداً وجودياً لـ”إسرائيل”، وأنه سيقود ما أسماه “الخراب الثالث للهيكل المزعوم”.
وتيرة الصّراع السياسي/الأيديولوجي في “إسرائيل” تزداد بشكل متسارع، فمنذ أن اشتعلت المواجهة العسكرية بين المقاومة في غزة و”جيش” العدوّ بتاريخ 11 تشرين الثاني/نوفمبر 2018، في ما عُرف بعمليّة “حدّ السيف”، والتي تفجَّرت بعد فشل وحدة “سيرت ميتكال” الاستخبارية الصهيونية في زرع أجهزة تصنّت داخل قطاع غزة ومقتل قائدها، وأعقبتها استقالة وزير الدفاع الصهيوني في حينه أفيغادور ليبرمان، لم يستقر النظام السياسي في “إسرائيل”، وظهرت على السّطح علامات الانقسام الحادّ داخل “المجتمع” وأعراضه.
وقد خاضت “إسرائيل” منذ ذلك التاريخ 4 انتخابات متتالية. وربما تفشل حكومة نفتالي بينيت التي أعلنها في الصّمود بضعة أشهر قبل إسقاطها والتوجه إلى انتخابات خامسة، ذلك أنها لم تجتمع على أيّ هدف سياسي أو اجتماعي أو ديني، وهي تضم كل التناقضات الحزبية والأيديولوجية، ولم يوحّدها سوى هدف واحد، وهو إسقاط بنيامين نتنياهو بأغلبية صوت واحد فقط داخل “الكنيست الصهيوني”.
التّحريض والتّشويه والتّهديد بالقتل بلغ أوجه، وربما من دون رجعة، فلا مؤشرات على عودة الاستقرار الاجتماعي/ السياسي إلى الكيان، بل العكس هو الصَّحيح، فقد بدأ الأمن الصهيوني بالتحذير من تنفيذ عملية اغتيال ضد نفتالي بينيت وإيليت شكيد من حزب “يمينا” الصهيوني، على خلفية تحالفهما مع ما يُسمى “اليسار العلماني” وإسقاط حكم اليمين الصهيوني بزعامة نتنياهو، وارتفع مستوى التهديد بالقتل ليصل إلى 5 من أصل 6، بعد إعلان العضوين اليمينيين بينيت/ شاكيد انضمامهما إلى ما يُسمى “كتلة التغيير”، بحسب القناة “12” الصهيونية.
وذكر موقع “مكان” الصهيوني بتاريخ 5 حزيران/يونيو 2021، أن رئيس الشاباك الصهيوني نداف أرغمان حذّر من اغتيال سياسيّ جراء ازدياد التطرف الخطير في النقاش العنيف والمحرّض، وخصوصاً في مواقع التواصل الاجتماعي.
تعتبر رسالة أرغمان استثنائية وغير مسبوقة قبل انتهاء ما يُسمى “يوم السبت العبري”، الَّذي تلتزم الأجهزة الأمنية الصهيونية عادةً به، ولا تصدر بيانات فيه إلا في حال الطوارئ.
وقد علَّق وزير الدفاع الصهيوني بيني غانتس على البيان قائلاً: “يبدو أنَّنا لم نستخلص العبر اللازمة من أحداث الماضي. من يحاول سلب شرعيّة مسارات ديمقراطيّة أساسيّة يتحمّل أيضاً المسؤوليّة”. كبار حاخامات الصهيونية الدينية دعوا إلى القيام بأيِّ شيء وبذل كل جهد كي لا تتشكّل حكومة بينيت، وصرّح عضو الكنيست الصهيوني نير أورباخ بأنَّ “إسرائيل” على شفا حرب أهلية.
عوامل التفكّك الداخلي في “إسرائيل” متعدّدة وعميقة، وهي تصبّ الزيت على نار حرب داخلية تزداد مؤشراتها يوماً بعد يوم، فالخلاف السياسي بين معسكر اليسار ويسار الوسط من جهة، ومعسكر اليمين الديني والعلماني من جهة أخرى، يعدّ أحد أوجه الانقسام التقليديّ التاريخيّ بين المعسكرين. وبسبب التحريض اليميني المتطرف على خلفية توقيع اتفاقية “أوسلو” بين “إسرائيل” ومنظمة التحرير الفلسطينية في العام 1993، تم اغتيال إسحاق رابين، رئيس الوزراء الصهيوني في حينه، بتاريخ 4 تشرين الثاني/نوفمبر 1995، على يد إيجال عامير، بعد حملة تحريض يمينية شبيهة بما تشهده الساحة الإسرائيلية هذه الأيام.
ثمة وجه آخر للتشتّت الصهيوني الداخلي، وهو الانقسام الحادّ بين اليمين العلمانيّ واليمين الدينيّ، والانقسام المستجدّ داخل الصهيونيّة الدينيّة بعد تحالف بينيت/ شاكيد مع رموز اليسار في حزبي “العمل” و”ميرتس” وحزب “التجمّع” بزعامة منصور عباس.
وقد أشرنا في مستهلّ المقال إلى الانقسام التقليديّ بين الأشكناز والسفارديم، تضاف إليه العنصرية ضد اليهود ذوي الأصول الأفريقية، وحالة الاغتراب والعزلة بين اليهود الروس، وهم أشبه بكيان داخل “الدولة”، بعضهم يتحدّث باللغة الروسية ولا يتحدث العبرية، لأسباب قوميَّة، ولضعف قدرتهم على الاندماج والانصهار داخل “المجتمع العبراني”.
بالنسبة إلى أصحاب الأرض وملّاكها الفلسطينيين الَّذين يقترب عددهم من مليوني نسمة، فقد أثبتت تداعيات معركة “سيف القدس” مؤخراً أنَّ صواعق التفجير داخل المدن الفلسطينيّة المحتلة العام 1948 متحفّزة للاشتعال في كل لحظة. وقد حذّر رئيس الكيان الإسرائيلي السّابق ريفلين من “اندلاع حرب أهلية” بين اليهود والفلسطينيين في الداخل المحتلّ.
مستقبل الحالة الداخليَّة في “إسرائيل” يبقى ضبابياً ومجهولاً ومفتوحاً على كلّ الاحتمالات، إلا أنّ سيناريوهات الاحتراب الداخلي الإسرائيلي تبقى قائمة في ظلّ عمق الأزمة السياسية والاجتماعية والإيديولوجية، والتي تترافق مع تراجع اقتصادي وتهديد أمنيّ خارجيّ، وخصوصاً بعد معركة “سيف القدس”، ومع مخاوف من اندلاع حرب إقليمية على خلفية جرائم العدو واستفزازاته في القدس والمسجد الأقصى، ما قد يؤدّي إلى تصاعد الهجرة العكسيَّة الإسرائيليَّة، وخصوصاً داخل النواة الصلبة للاحتلال، وهي تشكّل ما يقارب مليون صهيوني، هم العمود الفقري للكيان الصهيونيّ ونخبته العلميّة والاقتصاديّة.
اندلاع حرب أهلية إسرائيلية، وتفكّك “المجتمع” الصهيوني، وهجرة العقول والنخب منه نحو أوروبا والولايات المتحدة الأميركية، سيناريوهات باتت تؤرق العديد من الساسة والمفكّرين اليهود وحلفائهم. وقد صرَّح بعضهم أنّه يتمنّى أن تتمكَّن “إسرائيل” من اجتياز حاجز الثمانين عاماً، والَّذي لم تتخطَه “دولة” أنشأها اليهود منذ الأزل.
وسام أبو شمالة – الميادين
النص يعبر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة عن رأي الموقع
التعليقات مغلقة.