اضطراب ما بعد الصدمة في المجتمع الإسرائيلي: نموذج انتحار العسكريين
مقدمة
تكاد أغلب الدراسات التي تناولت الآثار النفسية لطوفان الأقصى تُجمع على أنه أفرز نموذجاً معاصراً لما يسميه علم النفس بـ”اضطراب ما بعد الصدمة Post Traumatic Stress Disorder”، والذي يتمثّل في حالة اضطراب نفسية ناجمة عن حدث مُرهق أو مُرعب للغاية وغير متوقَّع، وسواءً كان الفرد جزءاً من ذلك الحدث أو شاهداً عليه، فإنّ تأثيره على الفرد والمجتمع متداخلان. وقد تشمل الأعراض لهذه الظاهرة عدداً من المؤشرات، مثل استرجاع الذكريات للحدث بشكل متكرّر، أو الكوابيس، أو القلق الشديد، أو الأفكار التي لا يمكن السيطرة عليها بشأن ذلك الحدث، والتي قد تذهب بالفرد إلى حدّ الانتحار.
وتزداد الظاهرة حدّة وإشكالية إذا كان التعرّض لذلك الحدث تعرّضاً جمعيّاً لا فرديّاً، كظاهرة الحروب، مما يشكّل اضطراباً أوسع وأكثر تعقيداً، بشكل عام، ويتم تصنيف أعراض اضطراب ما بعد الصدمة إلى أربعة مظاهر، هي:
- التذكّر المؤلم للحدث أو ما يشير إليه.
- محاولة الهروب من تذكّر ذلك الحدث أو ما يشير إليه.
- حدوث تغيّرات سلبية في التفكير والمزاج.
- التغيّر في ردود الفعل الجسدية والعاطفية.
وتُشكّل ظاهرة الانتحار موضع بحثٍ جادٍّ لأغلب علماء النفس والاجتماع والأطباء، باعتبارها أحد مخرجات اضطراب ما بعد الصدمة.[3] وتعدّدت التفسيرات للظاهرة؛ فديفيد إميل دوركهايمDavid Émile Durkheim ربطها بظاهرة العجز عن التكيّف، ويفسّرها بعوامل ثلاثة، هي: ضغوط العزلة (الهروب من الأزمات)، والإيثار (الشعور بأولوية المجتمع على الذات)، أو بسبب الفوضى الاجتماعية الناتجة عن العجز عن التكيّف. بينما ربطها فرويد Freud بالتضاد بين غريزتين، هما: غريزة الموت Thanatos وغريزة الحياة Eros، عبر صراع الأنا (العقل) ego، والأنا العليا (الضمير) Super ego، والهو (الرغبة) Id. وربطها ألبير كامو Albert Camus بشعور الفرد بفقدان المعنى للحياة (المنظور العبثي). كما فسّرها آرثر شوبنهاور Arthur Schopenhauer بأنها هروب من الألم المستمرّ لنقصٍ في إرادة الحياة، مما يقود إلى النزوع نحو الانتحار. كما أن الأطباء أسهموا في تأصيل الظاهرة بيولوجيّاً من خلال الإشارة إلى أنّ خللاً يُصيب نظام السيروتونين Serotonin (أو ما يُسمّى هرمون السعادة) نتيجة خلل عصبي، مما يؤدي إلى الاكتئاب والقلق وضعف التركيز…إلخ.
لكن نظرية توماس جوينر T.E. Joiner، وهي نظرية “العلاقات البينية للانتحار Interpersonal Theory of Suicide (ITS)”، شغلت الباحثين أكثر من غيرها، فقد قامت النظرية على أن الفرد يميل إلى الانتحار إذا تضافرت عوامل ثلاثة في تكوينه النفسي:
- مشاعر العبء المتصوَّر Perceived burdensomeness: وتعني إحساساً ينتاب الفرد بأنّه يُشكّل عبئاً على الآخرين، وأنّ من حوله سيكونون أفضل بدونه.
- الانتماء المحبَط Thwarted belongingness: والذي يتجسّد في الإحساس بالاغتراب والعزلة والانفصال عن النسق الاجتماعي الكلي أو الفرعي، نظراً للشعور بعدم الانتماء، وعدم القدرة على بناء علاقاتٍ شخصية.
- القدرة المكتسَبة Acquired capability: وهي تضافر الرغبة في الموت من ناحية، والقدرة على تحقيق ذلك، من خلال التغلّب على الرغبة البشرية الفطرية في الحفاظ على الذات.
ويُقسّم جوينر مراحل الانتحار إلى مرحلتين، هما: الرغبة في الانتحار، ومرحلة تنفيذ الرغبة. فإذا شعر الفرد بانعدام الانتماء أو سيطر عليه شعور “الانتماء المُحبَط”، فقد يُظهر “رغبةً” في الانتحار، لكنه لا ينتقل لتنفيذ هذه الرغبة إلا بتوفّر “القدرة المكتسَبة”، إذ تتطوّر الحالة من مستوى التفكير في الانتحار إلى محاولة الانتحار وتدمير غريزة البقاء.
وتشير البيانات المتوفّرة عن المجتمع الإسرائيلي خلال مرحلتين، هما: ما قبل طوفان الأقصى
(7 تشرين الأول/ أكتوبر 2023) (وهي مرحلة ما قبل الصدمة)، ومرحلة ما بعد الطوفان (أي بعد الصدمة)، إلى أنّ معدّلات الانتحار تصاعدت في “الجماعة العسكرية” أو الجيش الإسرائيلي بشكل واضح في مرحلة ما بعد الطوفان. وهو أمر لا بدّ من بحث دلالاته، وكيف يمكن توظيف نظريات الانتحار لفهم هذه الظاهرة في المجتمع الإسرائيلي، خصوصاً كما سنوضح ببيانات كمية أنّ “إسرائيل” تحتل المرتبة الأولى بين الدول الأعلى في نسبة الانتحار مقارنةً بنِسب الانتحار في بقية دول منطقة الشرق الأوسط.
إنّ نظرية “اضطراب ما بعد الصدمة” تُشكّل المدخل الأنسب، في رأي الكاتب، لفهم انعكاسات طوفان الأقصى على المجتمع الإسرائيلي، خصوصاً بين العسكريين، مع توظيف بعض المؤشرات التي أشرنا لها في نظريات علماء النفس، وعلم النفس الاجتماعي، وعلم النفس السياسي.
أولاً: الانتحار في المجتمع والجيش الإسرائيلي:
عند العودة إلى مختلف التقارير الدولية (منظمة الصحة العالمية World Health Organization (WHO)، أو مراكز دراسات متخصصة أو بحوث أكاديمية)، يتبيّن لنا أنّ “إسرائيل” تقع في المرتبة الأولى في معدل الانتحار مقارنة ببقية دول الشرق الأوسط التي تتفاعل معها “إسرائيل” منذ نحو 75 عاماً.
فمعدل الانتحار في “إسرائيل” يتراوح خلال الفترة 2000–2021 ما بين الحد الأقصى وهو 6.8 (لكل مئة ألف نسمة)، والحد الأدنى 4.4 (لكل مئة ألف نسمة)، بينما يتراوح المعدل بين بقية دول الإقليم نحو 2.35 (لكل مئة ألف نسمة)، وهو ما يساوي أقل من نصف معدل “إسرائيل”.
واللافت للنظر أنّ مقارنة “إسرائيل” بالمجتمع الفلسطيني تكشف عن فارق كبير للغاية في نسبة الانتحار؛ فنسبة الانتحار في المجتمع الفلسطيني تساوي 0.78 (لكل مئة ألف)، وهو ما يعني أنّ نسبة الانتحار في المجتمع الفلسطيني تعادل 15% تقريباً من معدلها الإسرائيلي، على الرغم من كافة الضغوط الاجتماعية والسياسية والاقتصادية، المادية والمعنوية، على المجتمع الفلسطيني، بل إن الأغرب أنّ المجتمع الفلسطيني هو أقل مجتمع في العالم في نسبة الانتحار طبقاً لمنظمة الصحة العالمية.
وتشير تقارير منظمة الصحة العالمية إلى أنّ نحو 73% من حالات الانتحار تحدث في الدول متوسطة ومتدنية معدلات الدخل، بينما تُعدّ “إسرائيل” من الدول ذات الدخل المرتفع (على أساس المعادل الشرائي Purchasing Power Parity)، وفي خانة دول الاتحاد الأوروبي أو اليابان أو بعض دول الخليج النفطية (كالكويت) نفسها، مما يعني أنّ معامل الارتباط بين ارتفاع معدل الانتحار في “إسرائيل” ومعدل الدخل الفردي ضعيف ولا يصلح لتفسير الظاهرة.
من جانب آخر، فإن معدل الديموقراطية في “إسرائيل” سنة 2024 هو 7.8 (من عشرة)، بينما معدلها في دول الشرق الأوسط هو 3.12، لكنّ معدلات الانتحار أيضاً في دول الشرق الأوسط أقل كثيراً من “إسرائيل”، مما يعني أنّ نمط النظام السياسي لا يبرّر الفارق بين معدلات الانتحار بين الطرفين.
الجانب الآخر هو معدل العسكرة Militarization Index، والذي تحتل فيه “إسرائيل” المرتبة الثانية عالمياً بعد أوكرانيا، لكنها كانت تحتل المرتبة الأولى قبل سنة 2022، واللافت للنظر في هذا المؤشر أنّ “إسرائيل” تحتل المرتبة الثانية (بعد أرمينيا) في نسبة المنخرطين في السلك العسكري (في الخدمة أو الاحتياط) إلى مجموع السكان، وبمعدل يصل إلى 1.77، وهي نسبة عالية.
ولما كانت نسبة الانتحار بين العسكريين أعلى من نسبتها بين المدنيين في أغلب دول العالم، فإن الأمر يزداد حدّة في “إسرائيل” خصوصاً مع تعرّض العسكري، بشكل عام، لسلسلة من الضغوط، مثل:
- ضغط العمل البدني الشاق.
- ضغط ساعات العمل الطويلة.
- ضغط الحنين إلى العائلة والحياة الاجتماعية.
- ضغط الانصياع للأوامر المتلاحقة، خصوصاً في أثناء الحروب.
- الأحداث الحياتية السلبية (مثل وفاة أحد أفراد الأسرة، أو أحد زملاء الوحدة العسكرية،…إلخ).
- الخلاف مع السلطة، وخصوصاً مع القادة الذين يُنظر إليهم على أنهم غير منصفين.
- عدم الرضا عن مكان العمل والالتحاق القسري بالعمل العسكري أو إعادته للعمل مثل جنود الاحتياط.
ويتشارك في كل هذه العوامل كافة الجنود المشاركين في القتال أو في وحدات الدعم القتالي والاحتياط.
وبمقارنة نتائج الدراسات المختلفة في مجتمعات أخرى، التي تُبيّن أنّ الانتحار بين الرجال في أغلب دول العالم أعلى منه بين النساء، كما أنه بين العسكريين أعلى منه بين المدنيين، إضافة إلى أنه بين الشباب أعلى منه بين كبار السن، يتّضح أنّ “إسرائيل” تسجّل معدلات انتحار أعلى؛ فهي بين الرجال 8.36 مقابل 1.97 بين النساء، أي أنّ معدل الانتحار بين الرجال يبلغ 4.24 أضعاف معدل النساء. كما أنّ الهرم السكاني في “إسرائيل” يشير إلى غلبة شريحة الشباب على الكهول، وهذا يُعزّز تفسير ارتفاع ظاهرة الانتحار في “إسرائيل” مقارنة ببقية دول المنطقة. وبمقارنتها مع الفلسطينيين يتبيّن أنّ الانتحار بين الذكور هو 1.24، وبين الإناث 0.31، وهو ما يدلّ على فارق واضح بين المجتمعين، مما يعزّز استنتاجنا السابق.
وكشفت الدراسات أنّ متغيرات تشكيل ظاهرة الانتحار في المجتمع المدني هي نتيجة لتباينات في العمر، والحياة الاجتماعية، والجنس، ومستوى التعليم أو الخدمة العسكرية وما بعد الخدمة. وتشير الدراسات الكمية على الجيوش تحديداً إلى أنّ الرجال (الذين شاهدوا أو سمعوا أو مارسوا عملاً لا أخلاقياً في حياتهم، كالخيانة أو الهروب أو التهرّب من المعركة أو غيرها) أكثر عرضة بنسبة 50% لمحاولة الانتحار في أثناء الخدمة العسكرية مقارنة بما قبلها (أي قبل الانتقال من المجتمع المدني إلى المجتمع العسكري، وهو ما يعزّز إسهام الحياة العسكرية في رفع نسب الانتحار)، وأكثر عرضة بمرّتين لمحاولة الانتحار بعد ترك الخدمة. أما الرجال الذين مالوا لممارسة السلوك غير الأخلاقي (مثل الخيانة) أو شاهدوا ممارسته من الآخرين، فكانوا أكثر عرضة بمرّتين تقريباً لمحاولة الانتحار في أثناء الخدمة؛ وكانت النساء اللواتي مارسن الخيانة أكثر عرضة بنسبة تزيد عن 50% لمحاولة الانتحار في أثناء الخدمة. ويبدو أنّ نظريات تفسير الانتحار تُسهم في فهم هذا التعقيد، إذ يبدو الصراع هنا حادّاً بين الأنا العليا (الضمير) وبين الهو (الرغبة)، ويعجز الأنا (العقل) عن تسوية هذا التناقض من خلال تغليب نزعة الموت على نزعة الحياة كما أشرنا في تحليل فرويد.
إنّ هروب الجندي الإسرائيلي من المواجهة، أو مشاهدته لنماذج “بطولة لمقاتل المقاومة”، أو حتى تردّده في إنقاذ أو محاولة إنقاذ زميله في ميدان المعركة، أو قيام الجندي الإسرائيلي بقتل الأطفال والنساء أو الحيلولة دون وصول جائع إلى مركز توزيع المساعدات بل وقتله أحياناً، كلّ ذلك يؤجّج صراع الثالوث الذي تبنّاه فرويد (العقل والضمير والرغبة)، وهو ما يعزّز حالة ما بعد الصدمة، والتي ستبقى تظهر في سلوك وهواجس ذلك الجندي. فهو يطوي في لا وعيه إحساساً بأنه محتلّ “لأرض الغير”، ومجرم يقتل امرأة وطفلاً، وعبثيّاً يهدم المستشفيات والمدارس وخيام منتظري المساعدات، ويشعر بالتزايد في سوداوية صورته في العالم، ناهيكم عن إحساسه بأنّ الصراع طال لأكثر من ثلاثة أرباع القرن ولا يبدو من أفق لنهايته. ويكفي العودة إلى الشهادات المنشورة لبعض الجنود الإسرائيليين أمام الكنيست Knesset الإسرائيلي، أو التقارير الصحية الإسرائيلية للتأكّد من هذه الظاهرة والمشاعر التي تنتاب الجندي، وتتعزّز هذه المظاهر مما تورده التقارير الرسمية الإسرائيلية التي تتحدث عن أنّ المعدل الشهري للجرحى هو ألف جريح، وأن 35% منهم يُصابون بصدمات عقلية، وأن 27% يعانون من “اضطراب ما بعد الصدمة”.
من جانب آخر، يتعرّض المحاربون القدامى لخطر متزايد للميل للانتحار؛ فقد تبيّن أنّ معدل انتحار المحاربين القدامى في سنة 2020 أعلى بنسبة 50% من البالغين المدنيين. وتبيّن أنّه بين سنتي 2001 و2020، كانت هناك زيادة بنسبة 95% في معدلات الانتحار بين المحاربين القدامى الشباب، وزيادة بنسبة 13% في منتصف العمر، و58% لمن هم في سنّ التقاعد، و21% للمحاربين القدامى الذين تبلغ أعمارهم 75 عاماً فأكثر. وكشف التحليل، استناداً للمسح الوطني لسنة 2021 حول تعاطي المخدرات والصحة، أنّ 5% من المحاربين القدامى الذين تبلغ أعمارهم 18 عاماً فأكثر أفادوا بأفكار انتحارية، وأفاد نحو 1% بوضع خطة للانتحار، وأفاد أقل بقليل من 1% بمحاولة انتحار. وبالمقارنة مع غير المحاربين القدامى، كان المحاربون القدامى أكثر عرضة بنسبة 42% للإبلاغ عن أفكار انتحارية، وأكثر عرضة بنسبة 97% للإبلاغ عن خطط ذاتية للانتحار، وأكثر عرضة بثلاث مرات تقريباً للإبلاغ عن محاولة انتحار. وهنا تبدو نظرية جوينر التي أشرنا لها الأقرب للمساعدة في تفسير سبب زيادة خطر الرغبة في الانتحار لدى العسكريين في الخدمة الفعلية والمحاربين القدامى، إذ تبدو الأبعاد الثلاثة في النظرية كافية لفهم هذه النتائج، مع ضرورة التنبّه لعيوب الدراسات السابقة التي اعتمدت على مناهج مقطعية لدراسة نظرية الانتحار بين الأشخاص (ITS). ويُمثّل هذا الأمر إشكالية، لأن النظرية تؤكد على التغيّر في عناصرها الرئيسية بمرور الوقت، فمن غير الممكن مقارنة الوضع قبل طوفان الأقصى بما بعده.
وما يُعزّز نظرية توماس جوينر هو أنّ المقارنة بين نسب الانتحار بين اليهود من المهاجرين الإثيوبيين مقارنة بالمهاجرين من جمهوريات الاتحاد السوفييتي، وبقياس المقارنة لفترة 33 سنة متتالية، يتبيّن لنا أنّ القدرة التكيفية للمهاجر الإثيوبي أقل بشكل واضح منها لدى المهاجر السوفييتي، وهو ما يُعزّز من ناحية أخرى فكرة أنّ التكيّف، الذي ركّز عليه دوركهايم، يَصدُق في تفسير الحالة في المجتمع الإسرائيلي.
ثانياً: تأثير طوفان الأقصى على ظاهرة الانتحار في المجتمع الاسرائيلي:
من الضروري أن نقف هنا عند مؤشرات اجتماعية نفسية ضاغطة لا بدّ من التنبّه لها لفهم الإطار الذي يُفسِّر المؤشرات الكمية لارتفاع معدلات الانتحار في “إسرائيل” بعد الطوفان، خصوصاً بين العسكريين، كما يتضح من الجدول التالي. وتتمثل هذه المؤشرات في الآتي:
- لم أجد أي هيئة علمية أو سياسية إسرائيلية توقّعت أن تستمر معركة الطوفان المدة التي استغرقتها وما تزال جارية حتى كتابة هذه السطور، بل إن أغلب مراكز الدراسات لم تتمكن من رصد مدة النزاع أو مساراته. وترصد دراسة أكاديمية الصعوبات العديدة التي تجعل التنبؤ بهذه الظاهرة أمراً في غاية التعقيد. ولعلّ ذلك يضع العسكري الإسرائيلي في حالة من التوتر العالي الدائم، والشعور بالإحباط كلما طالت مدة المواجهة.
- يتعزّز الإحباط عند العسكري الإسرائيلي في فهم أو استيعاب قدرة المقاومة على الصمود لهذه الفترة الطويلة، خلافاً لكل التجارب الحربية الإسرائيلية السابقة مع الجيوش العربية أو حتى التنظيمات الفلسطينية، فأغلب المعارك مع الدول العربية أو مع التنظيمات كانت حروباً عابرة زمنيّاً. ولا شكّ أنّ طول فترة القلق، نتيجة التوتر العالي الذي يرافق العسكري الإسرائيلي طيلة هذه الفترة، وإحباطه من عدم القدرة على الانتصار السريع المعتاد في المخزون الذهني للجندي الإسرائيلي، يعزّز حالة اليأس.
- لم تعرف “إسرائيل” في تاريخها منذ سنة 1947 إلى الآن هذا القدر من الاضطراب الداخلي في المجتمع الإسرائيلي، والذي يتجلّى في المظاهرات شبه اليومية، والتشكيك في القيادة، والأزمات بين السياسيين والعسكريين، بل وتبادل الاتهامات بمفردات غير مألوفة في أدبيات الحوار الإسرائيلي، وهو ما يجعل الفرد الإسرائيلي، خصوصاً العسكري، يشعر بقدر من الارتكاس النفسي أو اضطراب ما بعد الصدمة؛ فصدمة الطوفان وما تلاها شكّلت تعميقاً للاضطراب الداخلي لدى الفرد الإسرائيلي.
- اهتزاز الصورة الإسرائيلية لدى المجتمع الدولي؛ فالشعور لدى الإسرائيلي قبل الطوفان كان شعوراً بعقدة “التفوّق”، غير أنّ المظاهرات حتى في المجتمعات الغربية، ومواقف النخب العالمية، ومضامين مواقع التواصل الاجتماعي، بل والارتباك الذي يجري داخل المجتمع اليهودي عالميّاً، ناهيك عن الإدانات المتواصلة من المنظمات الدولية وقرارات المحاكم الدولية (العدل الدولية International Court of Justice (ICJ) والجنائية الدولية International Criminal Court (ICC)) والمنظمات الدولية غير الحكومية، كلّها أسهمت في هذا التغيّر. فقد تلقّت “إسرائيل” منذ سنة 2006 حتى سنة 2024 ما مجموعه 154 إدانة من الجمعية العامة للأمم المتحدة UN General Assembly (UNGA)، و108 إدانات من لجنة حقوق الإنسان UN Human Rights Committee الدولية، وهي أرقام تقترب من ضعف ما تلقته بقية دول العالم من الإدانات. وإذا أضفنا إلى ذلك مشاهد الإبادة الجماعية التي أثبتتها المحاكم الدولية…إلخ، فإن كلّ ما سبق ذكره من المظاهر دفع بمشاعر التفوّق إلى التواري، وبدأ تكريس شعور في اللا وعي الإسرائيلي بالصورة الدونية، وهي حالة عبّر عنها عدد غير قليل من النخب الإسرائيلية ذاتها.
- إنّ مطالبة الحكومة الإسرائيلية خلال المفاوضات بأن تتوقف المقاومة عن العروض التي ترافق تسليم الأسرى الإسرائيليين مؤشّر لا يجوز فيه النظرة العابرة؛ فقد كانت تلك العروض منظمة ومهيبة بدرجة جعلت العديد من الخبراء الإسرائيليين يؤكدون الاختراق النفسي الذي قامت به المقاومة في المجتمع الإسرائيلي والعالمي على حدّ سواء.
- الإحساس بين المدنيين والعسكريين الإسرائيليين بأنّ منطقة الشرق الأوسط هي المنطقة الأعلى عالميّاً في معدل عدم الاستقرار السياسي؛ إذ إنّ 78% من دوله تقع ضمن خانة الدول غير المستقرة. كما أنّ “إسرائيل” تحتل المرتبة 155 (من بين 163 دولة) في “مؤشر السلام العالمي Global Peace Index”، وهو ما يجعل المجتمع يشعر بأنه في حالة حرب دائمة. فـ”إسرائيل” تواجه عملاً عسكريّاً أو انتفاضات شعبية أو حروب استنزاف أو معارك كبرى مع الدول العربية أو تنظيمات المقاومة كل أربعة أعوام تقريباً. ومن المؤكد أن حالة الحرب الدائمة تُكرّس مجتمعًا “نَزِقاً”، مما يفتح الباب واسعاً للاضطراب النفسي والاجتماعي، والذي يشكّل الانتحار أحد مظاهره، وهو ما يفسّر احتلال “إسرائيل” في ظاهرة الانتحار المرتبة الأولى في الشرق الأوسط، والمرتبة 138 بين 182 دولة.
معدلات الانتحار في “إسرائيل” قبل طوفان الأقصى وبعده
السنة عدد الحالات (عسكريون) عدد الجيش (بالألف) النسبة لكل 100 ألف المدنيون النسبة لكل 100 ألف
2021 11 170 6.5 359 4.2
2022 14 170 8.2 358 4.2
2023 17 (بعد 7 تشرين الأول/ أكتوبر) 500 3.4 غير متوفر 5.2
2024 21 500 4.2 غير متوفر 5.3
2025 15 (حتى منتصف تموز/ يوليو) 500 6 غير متوفر –
إنّ المؤشرات الكمية الواردة في الجدول أعلاه تُبيِّن تصاعد المعدل السنوي خلال سنوات الحرب 2023–2025، وهو ما يؤكّد تضافر الطوفان مع اضطراب دائم في البيئة الإقليمية لتعميق آثار التداعيات النفسية للحروب وعدم الاستقرار الداخلي. فـ”إسرائيل” تحتل المرتبة 173 بين دول العالم في معدل الاستقرار، بتراجع يصل إلى 44 مرتبة عمّا كان قبل الطوفان، ناهيك عن تعميق هذا الجانب بعد الضربات الإيرانية لـ”إسرائيل” خلال الحرب بين 13 و22/6/2025، وهو ما يمكن الاستدلال عليه بما أفاده الجيش الإسرائيلي بخصوص الارتفاع الحاد في عدد حالات الانتحار منذ بدء الحرب على غزة (كما يتضح من الجدول السابق)، مضيفاً أنّ آلاف الجنود توقّفوا عن الخدمة القتالية بسبب الضغوط النفسية.
وقد دفع هذا التوجّه الجيش الإسرائيلي إلى اعتماد تدابير وقائية جديدة بعد 15 شهراً من الصراع، حيث استنفر مئات الآلاف من جنود الاحتياط، وأعلن الجيش الإسرائيلي أنّ 28 جنديّاً انتحروا منذ بداية الحرب حتى نهاية سنة 2024، مسجّلين أعلى حصيلة منذ 13 عاماً، وهو ما أثار مخاوف بشأن أزمة صحية نفسية محتملة في الجيش. وأشار الجيش الإسرائيلي إلى وجود حالات انتحار “مُشتبه بها”، حيث ما تزال جميع الحالات قيد التحقيق حتى يومنا هذا.
وفي تقرير عن الإصابات خلال السنتين الماضيتين، قال الجيش الإسرائيلي إنه سجّل 21 حالة انتحار في سنة 2024، بزيادة 4 حالات عن السنة السابقة التي انتحر فيها 17 عسكريّاً، بما في ذلك 10 حالات وقعت قبل هجمات 7 تشرين الأول/ أكتوبر، بينما وقعت 7 حالات خلال أول ثلاثة شهور من المواجهة. وكان الارتفاع ملحوظاً بشكل خاص مقارنةً بالسنوات السابقة، حيث سُجّلت 14 حالة انتحار مشتبه بها في سنة 2022 و11 حالة في سنة 2021. وشمل أكثر من نصف حالات الانتحار في سنة 2024 عناصر من جنود الاحتياط، وهو رقم يُعزى إلى الارتفاع الكبير في عدد جنود الاحتياط الذين تمّ استدعاؤهم منذ بدء الحرب، وهو ما دفع العميد أمير فادماني Amir Vadmani، العميد في إدارة الموارد البشرية في الجيش الإسرائيلي، للقول بأنّ الجيش الإسرائيلي اتّخذ عدة إجراءات استجابةً لارتفاع معدلات الانتحار، وتهدف هذه الإجراءات إلى دعم الصحة النفسية على مدار الساعة، وزيادة عدد ضبّاط الصحة النفسية وتوافرهم، وافتتاح عيادة مخصصة لأفراد الخدمة النظامية، وتقديم رعايةً شاملةً لآثار صدمات القتال للجنود المسرّحين.
وكان الجيش الإسرائيلي قد تباهى في سنة 2021، بأنّه استطاع خفض حالات الانتحار بنسبة 75% من خلال برامج الوقاية، لكن بعض التقارير ترى أن دقّة هذه الأرقام هي موضع شك، وحتى لو قبلنا هذه الأرقام فإنّ طوفان الأقصى أعاد الظاهرة مرة أخرى وبحدّة أكبر.
من جانب آخر، ثمّة ظاهرة تزيد القلق لدى مراكز التخطيط الإسرائيلي، وهي تركُّز النسبة الأعلى من الانتحار بين الشباب. ففي دراسة لحالات الانتحار في الجيش الإسرائيلي خلال الفترة 1974-1984، تبيّن تركز حالات الانتحار بين العسكريين ممّن تتراوح أعمارهم بين 18–21 عاماً، وأنّ نسبة الانتحار في هذه الشريحة تتزايد. وتتأكد هذه النتائج من خلال دراسةٍ إحصائيةٍ أخرى تناولت الجنود الذين انتحروا بين سنتي 1974 و2001، بمن فيهم الجنود الذين تتراوح أعمارهم بين 18 و51 عاماً (الخدمة الإلزامية، والجنود المحترفين، وجنود الاحتياط)، فتبين أن 60% من بين 830 جنديّاً انتحروا، كانوا من الشباب الذكور. وترى الدراسة السابقة أنّ معدلات الانتحار من العسكريين بين الإناث أقلّ منها بين الرجال، وهي ظاهرة عالمية، لكن خصوصيّتها في “إسرائيل” لها أسباب، مثل أنّ نسبة التحاق الفتيات بالجيش أقلّ بنسبة 20% منها لدى الذكور، مما يجعل نسبة الانتحار أقل، كذلك فإنّ فترة خدمة الذكور العسكرية أطول، ثلاثة أعوام من الخدمة الإلزامية للذكور مقارنةً بعامَيْن من الخدمة الإلزامية للإناث، ناهيك عن أنّ مدة التدريب للإناث أقصر. بالإضافة إلى ذلك، فإنّ الالتحاق بالعمليات القتالية هو أمرٌ إلزاميٌّ للذكور خلافاً للإناث، مما يجعل احتمالات التعرّض للصدمات أقلّ لديهن.
فإذا أضفنا لما سبق ظاهرةً أخرى، وهي مدى الثقة في الكشف عن حالات الانتحار في الجيش الإسرائيلي، يتبيّن من استطلاعٌ للرأي أجراه معهد إسرائيلي أنّ ثقة الجمهور في تقارير الجيش الإسرائيلي عن حالات الانتحار انخفضت من 46% في سنة 2020 إلى 38% في سنة 2021. وكان انعدام الثقة واضحاً بشكل خاص بين الإسرائيليين الأصغر سنّاً، حيث أعرب 29% فقط ممّن تتراوح أعمارهم بين 18 و24 عاماً عن ثقتهم بـالجيش الإسرائيلي في هذه القضيّة، مقارنةً بـ 44% ممن تبلغ أعمارهم 55 عاماً فأكثر.
نماذج للمقارنة:
تدل المقارنة الكمية على أنّ معدل الانتحار في المجتمع الإسرائيلي يعادل، عند مقارنته بمعدل الانتحار في المجتمع الفلسطيني (داخل فلسطين)، ما يساوي نحو ستة أضعاف معدله بين الفلسطينيين. فإذا قارنّا بين الذكور في المجتمعَين الإسرائيلي والفلسطيني، نجد أنّ الفارق هو ذاته تقريباً (8.3 في “إسرائيل” مقابل 1.24 في المجتمع الفلسطيني)، وهو ما يعني أنّ المجتمع الفلسطيني أكثر قدرةً على التوازن النفسي في مواجهة اضطرابات ما بعد الصدمة، على الرغم من سلسلة الصدمات التي يواجهها. وفي دراسةٍ للمؤسسة العسكرية البريطانية لفترة تمتدّ لأكثر من قرن، تبيّن أن معدل الانتحار في المجتمع المدني أعلى من معدل الانتحار في المجتمع العسكري، بينما دلّت دراسةٌ أمريكيةٌ تغطي قرابة قرنين (1819–2017)، أنّ الانتحار في فترات الحرب في الجيش الأمريكي كان أقلّ من معدله في الأوضاع العادية، لكن ذلك تغيّر في حالات مثل الحرب الفيتنامية والحرب في العراق، وتراوحت نسبته بين 20.2% و29.7%. وتربط هذه الدراسة، استناداً إلى الحروب الفيتنامية والأفغانية والعراقية، بين متغيّرين هما طول مدّة الحرب وارتفاع معدل الانتحار، وهو ما يعزّز الاعتقاد بأنّ طول المواجهة في طوفان الأقصى قد يصلح لتفسير ارتفاع معدلات الانتحار في الجيش الإسرائيلي، إلى جانب أنّ الحروب الهجومية الخارجية أقلّ “أخلاقيةً” من الحروب الدفاعية الداخلية.
الخلاصة
إن ارتفاع مؤشر العسكرة في “إسرائيل”، وطول فترات الصراع منذ أكثر من 75 عاماً، وتتابع الحروب أو عمليات العنف العسكري هجوماً ودفاعاً بمعدل مرة كل أربعة أعوام، تعززت كلها بعد الطوفان، إلى جانب أن الطوفان أسهم في إعادة تشكيل صورة “إسرائيل” في المجتمع الدولي، فبدت دولة مارقة وصاحبة أعلى معدل إدانات من المنظمات الدولية الحكومية وغير الحكومية، بما فيها أهم المحاكم الدولية، وهو أمر سيكون له، من وجهة نظر النخبة الفكرية الإسرائيلية، تداعياته على المدى الطويل.
إن المجتمعات الإسبرطية، كما هو حال “إسرائيل”، هي مجتمعات عُصابية Neurotic Society (وهي مجتمعات تسودها المخاوف والقلق الجماعي، وتميل للتعصُّب والعنف المفرط)، قد تتمكن من تحقيق نتائج ميدانية لفترات معيّنة وضمن ظروف معيّنة، لكنها تبقى مهددة بالتوتر الداخلي نتيجة البنية السيكولوجية العُصابية التي تقوم عليها.
إنّ الضرورة تقتضي من الجانب الفلسطيني إيلاء الأبعاد والبنية النفسية للمجتمع الصهيوني اهتماماً أكبر، وتحري ثغرات هذه البنية النفسية وكيفية استغلالها في الصراع والتفاوض والحروب الإعلامية.
إنّ ظاهرة الانتحار التي عزّزها طوفان الأقصى في المجتمع الإسرائيلي ليست منفصلة عن البنية العُصابية، والنزعة الإسبرطية، والإحساس بتصدع النموذج المزعوم وتنامي الإحساس بمظاهر اضطراب ما بعد الصدمة.
وتنفرد “إسرائيل” مع تايوان بين دول العالم بـ”ضغوط هاجس الزوال”، فكلما واجهت “إسرائيل” مأزقاً حاداً، أو انتكاسة ميدانية، استيقظ هاجس الزوال في العقل الجمعي الإسرائيلي، وهو ما يضيف إلى اضطراب ما بعد الصدمة بُعداً آخر، فتتعزز النزعة العُصابية، كما تدل الدراسات الإسرائيلية للموضوع، وتتجلّى في ظاهرة تنامي الانتحار بين العسكريين الذين أوكل المجتمع إليهم مهمة منع الزوال. فأغلب دول العالم تتحدث عن أزمات سياسية، أو تغيّر النظام، أو أزمات اقتصادية، أو حروب…إلخ، لكن “إسرائيل” هي الدولة الأكثر تكراراً لهاجس “زوال الكيان”، خصوصاً مع تتابع الحروب بمعدل عالٍ، وهو ما يُكرّس البنية العُصابية لمجتمعٍ إمّا ينتحر أو يفرغ عصابيته في الأطفال والنساء والجوعى، كما يجري في قطاع غزة حالياً، أو يمارس تحايلاً معرفياً، طبقاً لنظرية ليون فيستنجر Leon Festinger، بصناعة رواية للأحداث تتسق في مضمونها مع الأوهام المسيطرة على المنظومة المعرفية للمجتمع الصهيوني، مما يزيد البنية العُصابية تعقيداً.
إنّ تحليل الانتحار لا يجوز أن يرتهن للبُعد الفردي في المجتمعات الإسبرطية، فهو تعبير عن عُصابية مجتمعية. ويشير مصطلح “المجتمع العُصابي” إلى مجتمع تُظهر فيه نسبة كبيرة من أعضائه سمات شخصية وسلوكيات عُصابية، مما يؤدي إلى خلل وظيفي جماعي وعواقب اجتماعية سلبية، وقد دلّت دراسات ميدانية على معامل ارتباط واضح بين النزعة العدوانية في المجتمع وبين التكوين العُصابي لذلك المجتمع.
وليد عبد الحي – مركز الزيتونة
النص يعبر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة عن رأي الموقع
التعليقات مغلقة.