بعد 3 أشهر من العقوبات الاقتصادية التي فرضتها الولايات المتحدة وحلفاؤها على روسيا والمتعاونين معها، تكشفت قائمة الشركات المتضررة من خطوة واشنطن التي طالت شركات ومصانع أمريكية تعمل في موسكو ومن بينها- بل إن شئت فقل أهمها- مصنع “سامارا ميتالورجيكال” الذي يساهم في صناعة الطائرات.
ويعتبر مصنع سامارا ميتالورجيكال وهو مجمع مترامي الأطراف في جنوب غربي روسيا، يمتد على مساحة بحجم عشرات الأبنية بالمدينة، حجر الزاوية في الصناعة الروسية. إنه أكبر مورِّد في البلاد لمنتجات الألمنيوم التجارية والصناعية.
يُعَد المصنع مصدراً لأجزاء مهمة للطائرات الحربية والصواريخ الروسية. وعلى قمة صرح المصنع مكتوب بأحرف زرقاء عملاقة اسم مالكه الأمريكي، شركة أركونيك، وهي شركةٌ مقرها مدينة بيتسبرغ بولاية بنسلفانيا الأمريكية، وتُعَد واحدةً من أكبر شركات تصنيع المعادن في أمريكا حتى بعد الانفصال عن شركة ألكوا الصناعية العملاقة في 2016، بحسب تقرير لصحيفة New York Times الأمريكية.
لا تصنِّع شركة أركونيك الأسلحة، لكن الحدادة المتطورة من بين عدد قليل من الآلات في روسيا التي يمكنها تشكيل معادن خفيفة الوزن في أجزاء كبيرة من الطائرات مثل الحواجز وحوامل الأجنحة.
تاريخ المصنع الأمريكي في روسيا
بموجب اتفاقية مع الحكومة الروسية، كانت الشركة منذ بدء عملياتها بمصنع سامارا، في عام 2004، مُطالَبةً قانوناً بتزويد صناعة الدفاع في البلاد كشرط لتشغيل مصنع أثبت إنتاجه غير العسكري في الغالب أنه مربح للغاية.
حتى عندما حولت روسيا جيشها نحو أهداف أكثر عدوانية حول العالم وتوترت العلاقة بين الولايات المتحدة والكرملين، حافظت شركة أركونيك على عمليات مصنع سامارا، على الرغم من التعقيدات القانونية والسياسية المتزايدة للعمل هناك.
لكن الآن، ومع الهجوم الروسي على أوكرانيا، الذي ولَّد حالة استقطابٍ عالمية، وجدت قيادة شركة أركونيك أن أعمالها في سامارا، أخيراً، غير مستدامة.
على الرغم من عدم وجود ما يشير إلى أن شركة أركونيك تنتهك العوبات الأمريكية أو الغربية الأخرى، جعلت هذه العقوبات من الصعب الحفاظ على إمداد المصنع وتشغيله. لكن إيقاف الإنتاج قد يعرِّض العاملين بالشركة هناك للسجن بموجب القوانين الروسية المتعلقة بالحفاظ على الإنتاج الاستراتيجي. وقد قطعت روسيا بالفعل حصول شركة أركونيك على أرباح مصنع سامارا.
وقال تيموثي مايرز، الرئيس التنفيذي لشركة أركونيك، الجمعة 20 مايو/أيار: “الصراع في أوكرانيا جعل استمرار وجودنا في روسيا غير مقبول، مما أدى إلى قرارنا السعي إلى البيع”.
تكشف وثائق الشركة التي حصلت عليها صحيفة The New York Times الأمريكية، جنباً إلى جنب مع الإيداعات المالية والمواد العامة الأخرى، عن سعي شركة أركونيك المحموم للحفاظ على استمرار تشغيل المصنع. قُدِّمَت الوثائق من قِبل موظف المبلغين عن المخالفات الذي اعترض على استمرار مشاركة أركونيك في روسيا حتى بعد الهجوم الروسي على أوكرانيا.
وفي يوم الأربعاء 18 مايو/أيار، وبعد يومٍ من تواصل صحيفة The New York Times مع شركة أركونيك للحصول على تفاصيل عملها في روسيا، وافق مجلس إدارتها على خطة، وفقاً لوثائق داخلية على أمرٍ كان قيد الدراسة الداخلية لأسابيع: بيع المصنع بالكامل. وأعلنت الشركة هذا القرار يوم الخميس.
لكن أي عملية بيع تظل افتراضية، حيث لا يوجد مشترٍ للشركة بعد. وسيتطلب العثور على مشترٍ موافقة الجهات التنظيمية، على أعلى المستويات من كلٍّ من الولايات المتحدة وروسيا.
ربما يكون هذا مناسباً، حيث تعاونت الحكومتان لتمهيد الطريق لتملُّك شركة أركونيك مصنع سامارا في المقام الأول.
والآن، ثبت أن الانفصال الذي طال انتظاره، والذي سرَّعته الحرب في أوكرانيا، مكلف، حيث وَقَعَ مستهلكو الطاقة الأوروبيون وشركات مثل أركونيك بين قوى معاديةٍ الآن.
نقطة التحول في العلاقة الأمريكية الروسية
كان الرئيسان جورج دبليو بوش وفلاديمير بوتين قد أعلنا في اجتماع قمة عام 2002 بموسكو، أن “العصر الذي كانت فيه الولايات المتحدة وروسيا تعتبر كلٌّ منهما الأخرى عدوةً لها أو تهديداً استراتيجياً عليها قد ولَّى”. وأضافا: “نحن شريكان”، وأخذ أحدهما يمتدح الآخر باعتبارهما حليفين متشابهين بالتفكير في الحرب على الإرهاب.
شجع بوش الشركات الأمريكية على شراء الصناعات الروسية التي سقطت في حالة يرثى لها. كان يُعتقد على نطاق واسع، أن التكامل الاقتصادي سيلزم روسيا والغرب إلى الأبد.
استحوذت الشركات الأمريكية على مجمعات مصانع كاملة، كانت من قبلُ محركاتٍ للقوة السوفييتية. رحبت موسكو بذلك، معتقدةً أن التمويل والمعرفة الأمريكية قد يعيدان بناء القوة الصناعية الروسية.
انضمت شركة ألكوا الصناعية الأمريكية العملاقة إلى هذا المسار المربح في عام 2004، حيث اشترت مجمعين في روسيا، أحدهما في سامارا. واشترت كلا المصنعين مقابل 257 مليون دولار، لكنها أنفقت ضعف ذلك المبلغ في إعادة بناء سامارا، الذي وجدت أنه يعمل بثلث طاقته.
كانت المنشأة عملاقاً في صناعة المعادن مؤلفاً من تسعة طوابق: مكبس حدادة ضخم شُيِّدَ في الأسفل قادر على تشكيل الأجزاء التي تشكل أكبر الطائرات والصواريخ. إنه واحد من عدد قليل من المكابس في العالم، وضمن ذلك اثنان فقط في روسيا.
لم تكن للمصنع العملاق في سامارا فائدةٌ تُذكَر في السنوات الأخيرة. ومع ذلك، فإن وجوده، مع عدد من المصانع الأصغر، يؤكد أن سامارا، مثل العديد من منشآت الحقبة السوفييتية، قد صُمِّمَ للجمع بين العملين التجاري والعسكري.
عندما اشترت مصنع سامارا، لم تسعَ شركة ألكوا -التي قسَّمَت جزءاً من عملياتها، وضمن ذلك تلك الموجودة في روسيا، إلى اسم أركونيك في 2016- إلى أن تصبح مورداً عسكرياً روسيّاً. بدلاً من ذلك، كان هذا هو شرط موسكو للبيع.
يظل هذا الشرط سارياً، وفقاً لوثائق الشركة التي تصف التزاماً قانونياً بـ”تصنيع منتجات الطائرات والدفاع”، لبيعها لصناعة الأسلحة الروسية.
قال مايرز، الذي يشغل الآن منصب الرئيس التنفيذي وكان من أوائل الموظفين الذين زاروا سامارا في أوائل العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، إن الحكومة الأمريكية كانت على علم بشروط موسكو عندما وافقت على شراء ألكوا. وقال إن الشركة الروسية التابعة للشركة تبيع معظم المنتجات من خلال موزعين آخرين، وبالتالي لا تستطيع شركة أركونيك التحكم في كيفية استخدام هذه المنتجات.
لكن وثائق الشركة تُظهر أن شركة أركونيك كانت طوال الوقت على علمٍ بأن العمليات الجارية في سامارا كانت تزوِّد الجيش الروسي، حتى لو كان ذلك جزءاً صغيراً من الأعمال الإجمالية للشركة.
طلبت موسكو من الشركة التوقيع على اتفاقية، كشرط للشراء، تتعهد بتقديم البرامج التي تعتبرها ضرورية إلى أجل غير مسمى. وأقر مايرز بهذه الشروط في مقابلة مع مَنفذ إخباري روسي، العام الماضي فقط.
تضمنت الاتفاقية وثيقة تكميلية، حصلت صحيفة New York Times على نسخة منها، توضح بالتفصيل عقود الإنتاج الإلزامية.
طُبِّقَت الوثيقة التكميلية على كلا المصنعين، والثاني الذي باعته شركة ألكوا لاحقاً. لكن الوثيقة تؤكد إصرار روسيا على إمدادات عسكرية ثابتة، واستعداد الشركة الأمريكية للامتثال.
الفائدة التي عادت على روسيا من هذه الشراكة
بالنسبة لموسكو، ربما كانت أكبر فائدة هي التحديث: فقد أدى التمويل والتكنولوجيا الغربية إلى تحويل المصنع من كونه مهجوراً إلى مصنع يتمتع بأحدث ما توصلت إليه التكنولوجيا.
وبالنسبة إلى أركونيك/ألكوا، كانت تلك هي تكلفة الدخول إلى روسيا. ومن الناحية المالية، فقد آتت ثمارها بشكل جيد.
في العام الماضي وحده، جلب مصنع سامارا ما يقرب من مليار دولار، وهو ما يمثل 16% من مبيعات شركة أركونيك للجهات الخارجية في جميع أنحاء العالم، وفقاً للإيداعات المالية.
وقبل فترة طويلة، أدت سلسلة من التدخلات العسكرية الروسية، وعلى رأسها ضم شبه جزيرة القرم في عام 2014 وتدخل روسيا في الحرب السورية بالعام التالي، إلى تغيير وجهات النظر الغربية تجاه روسيا.
وجدت شركة أركونيك نفسها تزود، ولكن بشكل غير مباشر، الجيش الروسي، الذي يُنظر إليه الآن على أنه تهديد عالمي. ومع ذلك، ظلت الشركة في روسيا.
لم تعد موسكو ترحب بهذا. وقد أقرت قوانين “مكافحة الاحتكار” الشاملة التي تسمح لها بتقييد أو طرد الشركات الأجنبية العاملة في الصناعات الحساسة.
وأصبح من المرجح بشكل خاص، أن تواجه الشركات الأمريكية تحقيقات رسمية. غالباً ما جاء ذلك مع أوامر قضائية يُفترض أنها مؤقتة، تجعل ممارسة الأعمال التجارية أمراً صعباً.
وقال أحد مستشاري صناعة الطيران، إن روسيا منذ ذلك الحين استولت فعلياً على العديد من المصانع المملوكة للأجانب، من خلال ما سماه “الأوليغارشية”.
عربي بوست
النص يعبر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة عن رأي الموقع
التعليقات مغلقة.