تتصاعد وتيرة الحرب في أوكرانيا، وسط تزايد الضغوطات من القوى الغربية بفرض عقوبات اقتصادية مشددة على روسيا، في ظل تأكيدات مستمرة على دورها الحاسم في ردع موسكو، مع تجاهل روسي لهذه العقوبات والتهوين منها والتأكيد على قدرة الاقتصاد الروسي على الصمود أمامها. وفي هذا السياق، يهدف هذا التحليل إلى الوقوف على التأثير المُحتمل لهذه العقوبات على الاقتصاد الروسي، ومدى قدرة موسكو على الصمود أمام محاولات عزلها اقتصادياً من قِبل الولايات المتحدة ودول الاتحاد الأوروبي وباقي الدول الغربية؛ وذلك من خلال عرض طبيعة العقوبات الاقتصادية التي تم فرضها على الاقتصاد الروسي جراء التدخل العسكري في أوكرانيا، والتداعيات المُحتملة لهذه العقوبات في ضوء خصائص الاقتصاد الروسي وإجراءاته الاحترازية التي تبناها لمواجهة مثل تلك العقوبات.
العقوبات على روسيا:
يشير مصطلح العقوبات الاقتصادية إلى مجموعة من التدابير أو الإجراءات الاقتصادية والمالية التي تفرضها دولة أو مجموعة من الدول أو المنظمات الدولية والإقليمية على دولة أو تنظيم ما، جراء قيامه بأعمال عدوانية أو تهديد للسلم العام أو لحمله على تقديم تنازلات ذات طبيعة سياسية أو اقتصادية أو عسكرية. وتتنوع تلك الإجراءات وتتدرج حدتها أو صعوبتها، إلا أنها بشكل عام تكون مرتبطة بالمعاملات التجارية والمالية التي تقوم بها الدولة أو الجهة المعنية مع العالم الخارجي، بحيث تتضمن هذه العقوبات فرض قيود جمركية أو تقييد التحويلات المالية أو الحواجز التجارية كأدوات للتطبيق. وقد تشمل كذلك إجراءات تقييدية على المعاملات المالية والأصول المملوكة للشركات وبعض أفراد الدولة في الخارج، فضلاً عن الحد من نقل التكنولوجيا أو المنتجات عالية التقنية إلى الدول المعنية.
وعلى خلفية التدخل العسكري الروسي في أوكرانيا منذ صباح يوم 24 فبرير 2022، أعلنت الولايات المتحدة الأمريكية وحلفاؤها في الاتحاد الأوروبي عن فرض مجموعة من العقوبات الاقتصادية على روسيا، حيث فرض الاتحاد الأوروبي عقوبات على 27 شخصية ومنظمة روسية تشمل بنوك روسية، بالإضافة إلى تقييد وصولها إلى أسواق المال الأوروبية وتقييد تجارتها مع الاتحاد الأوروبي. فيما أعلنت واشنطن عن إجراءات تقييدية ضد موسكو، تشمل “عقوبات حظر كامل” على مؤسسة VEB الروسية وبنكها العسكري، في محاولة للتأثير على قدرة روسيا على تمويل عملياتها العسكرية، وفقاً للرؤية الأمريكية، فضلاً عن تطبيق عقوبات شاملة على الدين السيادي الروسي. كما تم تجميد الحسابات المالية لأفراد النخبة الحاكمة الروسية وعائلاتهم. واتفقت الولايات المتحدة وحلفاؤها الأوروبيين على استبعاد روسيا جزئياً من النظام المالي العالمي “سويفت”، وكذلك تجميد مشروع نقل الغاز “السيل الشمالي 2” بالتنسيق مع ألمانيا.
وقُوبلت تلك العقوبات الغربية باستنكار من موسكو، مع تأكيدها على عدم جدواها في تغيير السياسة الخارجية الروسية تجاه الأزمة الأوكرانية، ومحدودية تأثيرها على الاقتصاد الروسي في ضوء الإجراءات الاحترازية التي تبنتها القيادة الروسية منذ أزمة شبه جزيرة القرم في عام 2014.
عوامل قوة:
يتوقف تأثير العقوبات الاقتصادية على روسيا على عاملين رئيسيين؛ يتعلق الأول بقدرة الاقتصاد الروسي على الصمود أمام مثل هذه العقوبات في ظل الملامح الهيكلية لهذا الاقتصاد، والسياسات الاقتصادية التي تبنتها موسكو خلال السنوات الأخيرة لمواجهة تلك التهديدات. أما العامل الثاني فيتمثل في قدرة الدول الغربية، خاصة دول الاتحاد الأوروبي، على الالتزام بفرض العقوبات في ظل ارتباط اقتصاداتها واعتمادها بشكل كبير على تجارتها مع روسيا، لاسيما فيما يتعلق بإمدادات الغاز الطبيعي. ويُضاف إلى ذلك، العوامل السياسية المُتمثلة في دعم الصين لروسيا وقدرتها على استغلال الأزمة الحالية في تعزيز دورها الاقتصادي في النظام العالمي.
بشكل عام، من المتوقع أن يكون تأثير العقوبات الاقتصادية على روسيا محدوداً، على الأقل في الأجل القصير إلى المتوسط؛ نتيجة مجموعة من العوامل عززت من قدرة الاقتصاد الروسي على الصمود، وهي كالتالي:
1- توجه روسيا نحو تعزيز شراكتها التجارية مع الصين: توجهت روسيا في السنوات الأخيرة إلى تنويع شركائها التجاريين خارج الاتحاد الأوروبي، والتوسع في تجارتها مع الصين على وجه خاص، لتستحوذ بكين وحدها على حوالي 15% من إجمالي الصادرات الروسية لعام 2020، وحوالي 24% من وارداتها، وفقاً لبيانات منظمة التجارة العالمية. وتشكل منتجات الطاقة أكثر من نصف صادرات روسيا إلى الصين، في الوقت الذي تمثل فيه صادرات النفط حوالي خُمس الإمدادات الروسية لدول العالم، بالإضافة إلى توقيع عقود توريد غاز طبيعي بين روسيا والصين كان آخرها العقد الذي تم الإعلان عنه في فبراير 2022 بتوريد 10 مليارات متر مكعب من الغاز الطبيعي سنوياً للصين لمدة 30 عاماً من خلال خط أنابيب غاز جديد، سيصل حقول الغاز الروسية بمنطقة هيلونغجيانغ في شمال شرق الصين.
والحقيقة أن هذا النمو المُطرد في التبادل التجاري بين الصين وروسيا وسط توقعات بنموه بصورة أكبر في الفترة القادمة، على حساب تجارة روسيا مع الاتحاد الأوروبي، في ظل وجود توجه مُسبق من الدولتين بتقليل الاعتماد على الدولار الأمريكي في التبادل التجاري واستخدام عملاتهما المحلية (الروبل الروسي واليوان الصيني)؛ هذا من شأنه أن يعزز من موقف الاقتصاد الروسي أمام هذه العقوبات الغربية، كما سيكون له تأثير على النظام المالي العالمي إذا ما استمر هذا الوضع بشكل قد يزعزع مكانة الدولار في هذا النظام في الأمد الطويل، وفقاً للعديد من المحللين. كما يحقق الاقتصاد الروسي فائضاً تجارياً سنوياً بلغ قرابة 185 مليار دولار في عام 2021، ما يعزز قدرته على الصمود أمام العقوبات على الأقل في الأجل القصير.
2- امتلاك موسكو هامشاً مالياً وقائياً: تمتلك روسيا احتياطيات دولية تُقدر بحوالي 632.2 مليار دولار بنهاية شهر يناير 2022، وفقاً لبيانات البنك المركزي الروسي، ويشكل الذهب منها حوالي 21%، مما يجعلها أقل ارتباطاً بالدولار الأمريكي، وبالتالي أقل تأثراً بتقييد تعاملاتها الخارجية بالدولار. وبلغ حجم احتياطي الذهب في روسيا في الربع الثالث من عام 2021 حوالي 2298 طناً، لتحتل بذلك المركز الخامس عالمياً في حجم الاحتياطي من الذهب، حيث لجأت حكومة بوتين إلى زيادة هذا الغطاء الذهبي في مقابل خفض استثماراتها في سندات الخزانة الأمريكية، إذ انخفضت استثمارات روسيا في أذون الخزانة الأمريكية منذ عام 2010 بحوالي 98%، لتبلغ قرابة 3.9 مليار دولار فقط. كما تمتلك روسيا صندوقاً سيادياً ضخماً، بلغت قيمته في فبراير 2022 حوالي 174.9 مليار دولار، وهو ما يمثل نحو 11% من الناتج المحلي الاجمالي للبلاد، وبما يساعد على تعويض أي خسائر اقتصادية قد تلحق بالاقتصاد الروسي سواء في التجارة أو الاستثمار في الأمد القصير.
3-¬ محدودية الانكشاف الخارجي لروسيا: تراجع الدين الخارجي لروسيا في السنوات الأخيرة بصورة كبيرة، ليبلغ في عام 2021 حوالي 478.2 مليار دولار، بعد أن اقتربت قيمته في عام 2014 من حوالي 732 مليار دولار. ويشكل هذا الدين قرابة 32% من الناتج المحلي الإجمالي لروسيا، وهي نسبة منخفضة مقارنة بالولايات المتحدة الأمريكية، على سبيل المثال، والذي تبلغ نسبة الدين إلى الناتج المحلي الاجمالي فيها حوالي 102%.
نقاط ضعف:
في مقابل تلك العوامل الداعمة للاقتصاد الروسي، ثمة خصائص أخرى لهذا الاقتصاد قد تُضعف من قدرته على تحمل العقوبات في الأجل الطويل، ويتمثل أبرزها في الآتي:
1- عدم تنوع هيكل الصادرات الروسية، واعتمادها بصورة مفرطة على الصادرات من المواد البترولية والغاز الطبيعي، وبالتالي حاجتها مستقبلاً لتصريف هذه المنتجات في ظل صعوبة فتح أسواق بديلة بشكل كامل عن دول الاتحاد الأوروبي. فالحقيقية أنه بينما تهدد روسيا دول أوروبا بتأثر إمدادات الغاز الطبيعي جراء فرض العقوبات عليها، فبالمثل أيضاً سيتأثر الاقتصاد الروسي في حالة وقف هذه الإمدادات بخسارة شريك تجاري مهم مثل دول الاتحاد الأوروبي، خاصة في ظل ما يستلزمه فتح أسواق جديدة من استثمارات ضخمة وبنية تحتية مُكلفة.
2- عدم قدرة المجتمع الروسي على تحمل أعباء عقوبات اقتصادية جديدة، وذلك في ظل تدهور الأوضاع المعيشية في روسيا منذ جائحة كورونا، وما قبلها جراء العقوبات التي سبق فرضها على روسيا بعد أزمة شبه جزيرة القرم. فعلى سبيل المثال، فإن متوسط دخل الفرد الحقيقي في روسيا أقل مما كان عليه قبل عام 2014. كذلك ارتفع معدل التضخم إلى أكثر من ضعف المستوى الذي يستهدفه البنك المركزي الروسي مع انخفاض قيمة “الروبل” أمام الدولار الأمريكي، والذي يرجح وقوعه تحت ضغوط قوية في الفترة المقبلة، ما يضاعف من التأثيرات السلبية للأزمة الحالية على المواطنين الروس. أيضاً من المتوقع أن يتأثر قطاع الصناعات المتطورة في روسيا بالعقوبات الاقتصادية المتعلقة بتقييد نقل التكنولوجيا من جهة، وصعوبة الحصول على مستلزمات الإنتاج خاصة عالية التكنولوجيا من الخارج من جهة أخرى.
ختاماً، يمكن القول إن موسكو قد تكون قادرة على الصمود أمام العقوبات الغربية، بالنظر إلى قوة الاقتصاد الروسي ومؤشراته الكلية المستقرة، مما سيقلل من فعالية جدوى هذه العقوبات في الأجل القصير إلى المتوسط. بيد أن استمرار تلك العقوبات لفترة أطول قد يؤثر بالسلب على قدرة الاقتصاد الروسي على النمو في الأجل الطويل.
وعلى المستوى الدولي، تحمل الأزمة الأوكرانية تداعيات خطيرة على الاقتصاد العالمي، والذي لم يتجاوز بعد التأثيرات السلبية لجائحة كوفيد-19. فبجانب التداعيات الاقتصادية المتوقعة لهذه الأزمة على أسعار النفط والغذاء والمعادن والموارد الأولية، ثمة تداعياته أخرى على النظام الاقتصادي العالمي وطبيعة تفاعلاته، في ضوء صعود ما يمكن تسميته بالمعسكر الشرقي (الصين وروسيا) أمام تراجع قوة المعسكر الغربي، والشكوك حول قدرة الأخير على التمسك بفرض العقوبات في ظل تهديدات روسيا بوقف إمدادات البترول والغاز الطبيعي على وجه خاص، حيث تبلغ حصة موسكو فيهما حوالي 17% من السوق العالمي للغاز الطبيعي، و12% من سوق النفط، ناهيك عن السلع والمنتجات الغذائية مثل القمح الذي تستحوذ روسيا على 18% من حجم سوقه العالمي؛ ومن ثم امتداد تأثيرات الأزمة إلى أسعار هذه السلع وسلاسل الإمداد العالمية.
وفي المُجمل، من المهم التأكيد على أن أي من السيناريوهات المُحتملة لحدود تأثير العقوبات الغربية على الاقتصاد الروسي، أو تداعيات الأزمة الأوكرانية على الاقتصاد العالمي؛ سيرتبط بمدى استمرار أو طول التدخل العسكري الروسي في أوكرانيا.
د. سمر الباجوري – المستقبل للابحاث والدراسات المتقدمة
النص يعبر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة عن رأي الموقع
التعليقات مغلقة.