بنهاية عام 2021، كان العالم أجمع يتابع المسلسل الكوري الجنوبي “لعبة الحبار” (Squid Game) عبر منصة البث الافتراضي “نتفليكس”، الذي حقَّق طفرة هائلة في المشاهدات لصالح المنصة الأميركية التي يقع مقرها في كاليفورنيا، حيث تجاوزت مشاهداته 142 مليون شخص، بإجمالي مليار و650 مليون ساعة مشاهدة، واحتل المركز الأول في قائمة العروض الأكثر مشاهدة في 94 دولة حول العالم خلال عدة أسابيع بعد إطلاقه.
ولكن يبدو أن شركة “نتفليكس” لم تكن تتصوَّر أنها ستكون طرفا في لعبة حبار حقيقية بمجيء عام 2022، الذي يحمل فيما يبدو تحديات وجودية تُعَدُّ هي الأخطر على مدار 10 سنوات لأكبر شبكة أفلام في العالم حتى الآن، ما جعلها تتصدَّر التحليلات الاقتصادية حول العالم، وتتعرَّض لموجة مطالبات كبرى من مساهميها ومستثمريها تدفعها إلى اتخاذ إجراءات غير اعتيادية لكي تنجو من أزمة كبرى غير مسبوقة.
توقعات تشاؤمية مُغرقة في التفاؤل!
في يناير/كانون الثاني 2022، أصدرت “نتفليكس” تقريرا وُصف بأنه تشاؤمي، قرَّرت فيه منصة الأفلام عبر الطلب بأنها من المتوقع أن تشهد “تباطؤا” في أعداد المشتركين الجدد خلال عام 2022. في المعتاد، تضم منصة “نتفليكس” نحو 4 ملايين مشترك جديد في كل ربع عام -كل 3 أشهر- وهو رقم شبه ثابت على مدار السنوات الماضية. لكن توقعات “نتفليكس” اختلفت قليلا في بداية هذا العام، حيث قالت إنها غالبا سوف تنجح في جذب 2.5 مليون مشترك جديد فقط خلال الربع الأول من العام.
علَّلت نتفليكس هذه التوقعات وقتئذ ببعض الأسباب مثل عودة الحياة الطبيعية مع انحسار جائحة كورونا، وإنهاء الإغلاقات العالمية التي كانت سببا في بقاء مئات الملايين من الأشخاص حول العالم في المنازل خلال العامين الماضيين، وهو ما أدى إلى زيادة الطلب بشكل هائل على منصتها خلال العامين الأخيرين. لذلك، وبعودة الحياة إلى مجاريها، كان من الطبيعي أن تنحسر أعداد المشتركين الجدد في المنصة.
وأشارت “نتفليكس” أيضا إلى سبب آخر لتباطؤها المتوقع خلال عام 2022، وهو ظهور الشركات المنافسة في الساحة العالمية، وأيضا ظهور خدمات منصات الأفلام الإقليمية، مما يؤدي إلى تباطؤ تمدُّدها العالمي، لكن هذا التباطؤ من المستبعد أن يؤثر بشكل كبير على الاتجاه العام للنمو الذي تُحقِّقه المنصة خلال عام 2022، باعتبار أنها ما زالت تتربَّع على عرش أفضل منصات الأفلام حول العالم بنمو بلغ 6000% خلال السنوات العشر الأخيرة، وبإجمالي أعضاء مشتركين يصل إلى 222 مليون عضو حول العالم، بواقع 25 مليون مشترك جديد سنويا تقريبا.
حسنا، يبدو أن التوقع التشاؤمي الذي أطلقته “نتفليكس” في مطلع العام كان متفائلا أكثر من اللازم، مع ظهور تقرير نتائج الربع الأول من العام الجاري بالفعل!
50 مليار دولار في الهواء
في نهاية إبريل/نيسان 2022، هوى سهم “نتفليكس” بأكثر من 35% من قيمته، بعد إعلان الشركة نتائج أعمالها للربع الأول من عام 2022، التي كانت مفاجئة بكل المقاييس، حيث لم تُحقِّق الشركة تباطؤا في النمو كما كانت تتوقع في مطلع العام، بل حقَّقت خسائر تُقدَّر برحيل 200 ألف مشترك خلال الأشهر الثلاثة الأولى من العام، في واقعة تحدث للمرة الأولى منذ عام 2011.
هذا الهبوط الكبير في سهم “نتفليكس” أدى إلى شطب ثلث قيمتها السوقية تقريبا بخسارة نحو 50 مليار دولار، خصوصا مع إعلان “نتفليكس” أنها تتوقع خسارة المزيد من العملاء يصل إلى مليونَيْ ونصف عميل في الربع الثاني من العام، لتُسجِّل بذلك منصة بث الأفلام أسوأ عام لها على الإطلاق منذ تاريخ إدراجها في سوق الأسهم.
ورغم الإحباط الذي خيَّم على المستثمرين والمحللين والتنفيذيين في شركات الإنتاج الفني حول العالم، بإعلان المنصة عن تباطؤ نموها بشكل حاد خلال العام الجاري، فإنهم ما زالوا يأملون أن تُحقِّق الشركة بعض مؤشرات النمو خلال الفترة المقبلة، بعد تجاوزها فترة الصدمة التي اجتمعت فيها العديد من العوامل.
ما الذي يحدث؟
تُعلِّل “نتفليكس” هذه النتائج السيئة غير المسبوقة في تاريخها منذ إدراجها في البورصة إلى عدد من العوامل “الخارجية” التي لا علاقة بالنشاط الرئيس لها بوصفها مُشغِّلا للأفلام عبر البث. من أوائل هذه الأسباب التي أدَّت إلى تدهور نتائجها ما صرَّحت به الشركة سابقا أن ارتفاع عدد مستخدميها خلال فترة الجائحة كما أنه كان عاملا مهما في تحقيق نتائج جيدة خلال العامين الماضيين، فإنه مَثَّل خطرا أيضا بانسحاب الكثيرين منهم بعد إنهاء الإغلاق.
عنصر آخر شديد التأثير في النتائج السلبية التي حقَّقتها “نتفليكس” خلال الربع الأول من العام، وهو ما ذكرته المنصة في اضطرارها إلى تعليق خدماتها في السوق الروسي في أعقاب الاجتياح الروسي لأوكرانيا، مما أدى إلى تعطيل نحو 700 ألف حساب في روسيا وبعض المناطق في أوروبا والشرق الأوسط. في الوقت نفسه، خسرت “نتفليكس” نحو 600 ألف مشترك في أميركا وكندا بسبب الزيادة الأخيرة في الأسعار التي طبَّقتها “نتفليكس” على عملائها في أميركا الشمالية، كل هذا أدى إلى زيادة فقدان المشتركين بشكل أكبر بكثير عن “المعدل العادي” لتعطيل الحسابات والانسحاب من الخدمة.
السبب الثالث الذي علَّلت به “نتفليكس” أزمة انسحاب المشتركين هي الظاهرة العالمية لمشاركة كلمات مرور الحسابات بين المستخدمين، حيث قدَّرت المنصة أن هناك أكثر من 100 مليون أسرة تتمتع بخدماتها دون أن تدفع رسوم الاشتراك، عبر استخدام كلمات السر من مشتركيها. وفي رسالة سابقة كتبتها المنصة لمساهميها، قالت إنها لم تكن تولي هذا الأمر اهتماما كبيرا، وكانت تركز على معدل اختراق واسع للأُسَر حول العالم، لكن زيادة الحسابات إلى هذا الحد خلق رياحا معاكسة لنمو إيراداتها بشكل حاد في الأعوام الأخيرة.
أما السبب الرابع، فقد علَّلت “نتفليكس” أن انسحاب بعض عملائها يعود إلى تنامي حِدَّة المنافسة خلال السنوات الأخيرة، مع بزوغ منصات بث افتراضي مدعومة بشركات عملاقة مثل “أبل” و”أمازون”، وكذلك شركات الأفلام العملاقة مثل “ديزني بلس” التي تضخ مليارات الدولارات لتطوير منصتها للبث عبر الإنترنت. بالإضافة إلى نشوء العديد من منصات البث الإقليمية والمحلية حول العالم، مما يؤدي في النهاية إلى زيادة المنافسة وتقليل حصة “نتفليكس” في الأسواق، خصوصا مع تطبيقها إستراتيجية رفع الأسعار مؤخرا.
احتجاجات على محتوى نتفليكس
ومع هذه الأرقام السلبية الأسوأ على الإطلاق خلال عشر سنوات من عمر المنصة، ومع تبرير إدارتها أن أسباب هذه الأرقام المتردية هي عناصر خارجة عن إرادتها بشكل كامل، سببها التغيرات في الأسواق، فإن الأزمة لم تخلُ أيضا من انتقادات عنيفة تجاه المحتوى الذي تُقدِّمه المنصة، جاء على رأس المنتقدين هذه المرة الملياردير الأميركي الأشهر إيلون ماسك، مؤسس شركة “سبيس إكس” (spaceX) و”تيسلا” الذي يُعَدُّ أغنى رجل في العالم حتى الآن بثروة تتجاوز 260 مليار دولار.
قال ماسك في تغريدة له عبر تويتر إنه “لا يُطيق” مشاهدة “نتفليكس” بسبب إصابتها بفيروس “WOKE” الذي وصفه في تغريدة أخرى بأنه “أكبر تهديد للحضارة”. أيديولوجيا الووك (WOKE) تُشير إلى الأيديولوجيا اليسارية التي انتشرت حول العالم، التي تعني إدراك العنصرية والتمييز الذي تتعرَّض له الأقليات، خصوصا السود والملونين وأصحاب الأديان والثقافات الصغيرة وقضايا المرأة والجندريّة، وإقحامها في كل عمل من أعمالها إقحاما.
هذه الأيديولوجيا أنتجت خلال السنوات الماضية، مع كثافة الترويج لها من قِبَل الأحزاب اليسارية حول العالم، ما يشبه عنصرية مقلوبة، حيث يُفسَّر كل شيء بناء على لون البشرة والإثنية والعِرق والدين والجنس، ويقحمها إقحاما في أي سياق. وعزا ماسك السبب الأساسي للتراجع الذي تشهده المنصة وفقدانها لأعداد كبيرة من مستخدميها إلى “فيروس الووك” الذي لم يعد يمكن لأحد أن يشاهده.
وبالطبع ليست هذه هي المرة الأولى التي تُهاجَم فيها منصة “نتفليكس” للسبب نفسه، فعلى مدار سنوات كان المحتوى الذي تُقدِّمه المنصة صادما للعديد من المشاهدين حول العالم، وتتوالى دعاوى المقاطعة لأسباب مختلفة، كان آخرها في العالم العربي على إثر فيلم “أصحاب ولا أعز” الذي وُصف بأنه فيلم فاضح. كما تعرَّضت المنصة أيضا لهجوم عالمي ودعوات للمقاطعة على إثر أحد أفلامها الذي يُروِّج لمشاهد ومعانٍ جنسية بين القاصرات.
خطة للخروج من الأزمة
رغم الصورة القاتمة لنتائج “نتفليكس” خلال عام 2022، فإنها ما زالت تمتلك الكثير من أوراق اللعب، فهي لا تزال المنصة الأولى للبث الافتراضي مُتقدِّمة بفارق كبير على معظم منافسيها، حيث يبلغ عدد مشتركيها حول العالم نحو 222 مليون مشترك، ثم يأتي بعدها في المركز الثاني منصة “ديزني بلس” بنحو 179 مليون مشترك. كما حقَّقت المنصة خلال الربع الأول -رغم انهيار قيمة سهمها- حقَّقت إيرادات وصلت إلى 7.8 مليار دولار، وأرباحا صافية قدرها 1.6 مليار دولار.
اعتمادا على قوتها السوقية، أعلنت “نتفليكس” عددا من الإجراءات التي بدأت في تفعيلها لمواجهة انسحاب المشتركين من منصتها، ومحاولة السيطرة على نهر الأموال المُهدَر بسبب متابعة ملايين الأشخاص لمنتجاتها الرقمية بدون دفع الاشتراك. لذلك، بدأت الشركة في مارس/آذار بالتضييق على مشاركة الحسابات خارج نطاق الأسرة، وعلَّلت هذا الإجراء بأنه سوف يؤثر إيجابيا على قدراتها في الاستثمار على المسلسلات وإنتاج أفلام مميزة لمشتركيها.
وقالت المنصة إنه في حالة مشاركة كلمة السر مع أشخاص خارج نطاق الأسرة، فستفرض رسوما إضافية طفيفة -من 2-3 دولارات إضافية بحسب ما طبَّقته المنصة في بعض الدول- تسمح للأصدقاء أو المشاركين من خارج المنزل بالمشاهدة دون حاجة إلى دفع اشتراك كامل.
بالإضافة إلى ذلك، كشف المدير التنفيذي لمنصة “نتفليكس” ريد هاستينغز عن واحدة من أكثر الخطط الإستراتيجية التي رفضتها المنصة عدة سنوات، وهي إمكانية إتاحة نموذج تجاري أرخص بكثير من النموذج الحالي مدعوما بوجود مواد إعلانية، وقال إن المنصة سوف تنتهي من التفاصيل الخاصة بهذه الخطة خلال العام الجاري. هاستينغز قال إنه غير معجب على الإطلاق بوجود الإعلانات على المنصة، ويميل أكثر إلى النموذج الحالي القائم على الاشتراك مقابل المشاهدة بلا إعلانات، لكنه قال إن هذا الخيار ينبغي أن يكون موجودا بالنسبة للمستهلكين الذين لا يمانعون في الانضمام إلى المنصة باشتراكات أقل ثمنا ولا يمانعون في مشاهدة الإعلانات.
كما بدأت المنصة في إضافة منتجات رقمية جديدة، على رأسها ألعاب الفيديو التي بدأت في تطويرها من خلال الاستحواذ على أستوديوهات الألعاب مثل “نايت سكول” (Night School) والبدء في تطوير ألعاب مقتبسة من مسلسلها الناجح “أغرب الأشياء” (Stranger Things). وقالت المنصة إنها تستهدف التوسُّع في ألعابها خلال عام 2022 لتشمل ألعابا مختلفة ليست بالضرورة مقتبسة من أعمالها الأصلية.
في النهاية، الأمر المؤكَّد أن منصة “نتفليكس” تواجه تحديات عصيبة لا تُقارن بالسنوات الماضية التي كانت تُمثِّل عصرها الذهبي، فالآن الساحة تعج بالمنافسين الأقوياء من جهة، وتعج بجمهور مُتحفِّز ضد أي زيادة في الأسعار وأي انخفاض في جودة المحتوى من جهة أخرى. سنرى كيف ستحاول “نتفليكس” تجاوز هذه الأزمات خلال العام الحالي، وما الخطوات التي ستتبعها لمحاولة البقاء على عرش منصات البث الافتراضي عالميا.
عماد ابو الفتوح – الجزيرة
النص يعبر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة عن رأي الموقع
التعليقات مغلقة.