“إمّا عِزّة لا تُقصم أو ذِلّة لا تَرحم.. إمّا حَياة حُرّة أو هَوان تُهدَر في حَمأَته إنسانيّة الإنسان.. إمّا استقلال من دون وصاية، أو استعباد نكون معه كالأيتام على مأدبة اللئام..”
السيد عبد الحسين شرف الدين، مؤتمر وادي الحجير، 1920.
على وقْع تلك الأحداث المصيرية، تلقّف السيد عبد الحسين شرف الدين، عالم الدين العاملي ورجل السياسة الثائر والداعي للاستقلال والوحدة، ضرورة اجتِذاب الوَعي العام في المنطقة نحو المؤامرة الداهِمة التي تُحاك من قبل دول الاستعمار، والخطر الذي يتربّص بالوحدة “التكتُّلية” العربية، من تقسيم وتشتيت وعزل. للغاية، انعقَدَ، في 24 نيسان 1920، مؤتمر “وادي الحجير” الذي سمّيَ على اسم المكان الذي أقيم فيه، والذي افتَتَحَه السيد شرف الدين بموقف الرفض القاطع لأي حماية أو وصاية، و”يأبى إلا الاستقلال التام والناجز”. وكان حينها إعلان “الجهاد” بشكل صريح وواضح ضد القوى “الامبريالية” بشكلها المتجدِّد.
تحوّل مؤتمر وادي الحجير إلى “دستور” للحرية والاستقلال، ورسّخ وضعية الرفض التام لأي مكيدة تهدف إلى تقسيم المنطقة وإرساء الهيمنة الاستعمارية بالطراز المتجدّد. ساعتذاك انطلق السيد “الثائر” نحو توطيد نهج المقاومة على مدى أوسع ونبذ أي فكرة تكرّس الوصاية والاستعمار. طرح مفهوم المقاومة الشاملة المتكاملة، التي تشمل المقاومة المسلّحة بدايةً، والتي تشكّل قاعدة المواجهة الأساسية ونقطة الارتكاز الجَوهرية ضمن منهجية المجابهة، يليها مقاومة فكرية، ثقافية، اجتماعية، وسياسية.
آمن السيد شرف الدين أن أسُسَ المواجهة الفعّالة تكمن ابتداءً في خلق نواة للعمل العسكري والمقاومة العسكرية، ورأى بعين اليقين أن فعالية التصدّي للمشروع “الهَيمَني” الجديد لا تُدرَك من دون خليّة مقاومة عسكرية تشكّل “مسند” أشكال المواجهة الأخرى. وعليه، رعى السيد حركات المقاومة العسكرية حينها، والتي كانت تتشكّل على هيئة تشكيلات متفرقة بالشكل، لكنها تجتمع فيما بينها على الرؤية العامة والتنسيق الدائم. من أبرز التشكيلات المسلّحة كانت تلك التي يقودها القياديّان صادق الحمزة وأدهم خنجر. قادا العديد من المعارك العسكرية ضد المستعمرين، منها في مصيلح بقيادة خنجر، حينما كَمَن ومعه حوالي 50 رجلًا لقوات “نيجر” المتقدّمة، وفي وادي الحريق بقيادة الحمزة.
تعرّضت حركة السيد “المُتَمَرّد” إلى مؤامرة “تحويريّة” من قبل القوات الفرنسية، عملت على تحوير هيئة الصراع القائم على أنه صراع مسلم – مسيحي، وقامت بحملات تشويهيّة تستهدف حركة السيد شرف الدين وتقوّض مشروعيّتها وتحرفها نحو توجّهات لا تمتّ إلى طبيعة الحركة المناهضة للاستعمار بصلة. هذه المرة أيضًا، أفشَل السيد الدسيسة الجديدة، وقام بتحرّك توجيهي وتَوعَوي ركّز من خلاله على لفت الوعي الفكري واجتذابه نحو المكيدة الجديدة التي تنشد الاطاحة بالسلم الأهلي الداخلي، وتعمل على التفرقة وتحويل المعركة الأساسية إلى تقاتل داخلي بين أبناء البلد الواحد، وبالتالي إتاحة الفرصة أمام الفرنسيين لإنجاز برنامجهم وتحضير الأرضية الخصبة لإقامة مشروعهم من دون عراقيل.
قاد السيّد معركة “الوعي” ببراعة، وحوّل معركة الاستقلال إلى “عقيدة” متكاملة تحتوي على مبادئ الوطن السيادي المستقلّ غير القابع تحت تسلّط القوى الاستعمارية التي تنتزع كل مضامين السيادة من الأوطان.
لم يقتصر حراك السيد شرف الدين على الجنوب، إنما حمل بين طيّات ثورته قضايا المنطقة بأسرها، واعتبر أن الانفصال والتقسيم يوديان بنا إلى التمزّق والتشتّت ويجعلاننا لقمة سائغة يسهل ابتلاعنا من قبل الأعداء المتربّصين، المتمثلين بدول الغرب، على رأسها فرنسا وبريطانيا. وكان شغله الشاغل توعية أقطاب الأمة للمخاطر المحدقة التي تجرّ مواطننا نحو التفتّت. لم ينحصر حراكه على ذلك، بل استمر يوجّه الرسائل شرقًا وغربًا مؤكدًا على ضرورة عدم تقسيم المنطقة، مطالبًا بالاستقلال التام والناجز لسوريا بحدودها الطبيعية التي عرفت بها في مختلف حقب التاريخ والتي كانت عليها قبل الحرب العالمية الأولى. وقد أشرف على إرسال رسالة إلى لجنة كينغ-كراين تنصّ على عدم الرضى إلا بالاستقلال التام، ضمن حدود سوريا الطبيعية.
هذا السياسيّ المحنّك، استطاع منع “توطين الأدمغة” مع فكرة “الانتداب”، وفشلت معه محاولات القوى الفرنسية الغازية بتلوين استعمارها وتقديمه على أنه رعاية وحفظ كيان. وهذا ما نجح فيه السيد نجاحًا باهرًا، وإن كان التقسيم قد أُنجز بمؤامرة كونية لم يُتمكَّن من كبحها، إلا أن السيد، بمهاراته الثورية، غرس عقيدة الوعي الثوري لدى جمع الأمّة، ونصّب مفهوم الاستقلال في الوعي الجمعي لدى أبناء “سوريا الكبرى” كافة، ولا شكّ أنه لولا هذا الخيار الذي اتّخذه السيد عبد الحسين شرف الدين، لكنّا في مكان آخر اليوم، ولكان المسار الاستعماري انتقل انتقالًا سلسًا، غازٍيًا تلو غازٍ، من دون أن يشهد أي مقاومة.
ونحن نحتفل اليوم بعيد الاستقلال، لا زلنا نبحث عنه تحت أنقاض الهيمنة السياسية التي أنهكت كاهل كياناتنا. لا زلنا نبحث عن الاستقلال على خطّ حدود التقسيم الذي فرضته علينا قوات الاستعمار البريطاني والفرنسي قبل أكثر من قرن.
نبحث عن هذا الاستقلال ونحن نقرأ مبادئه في دستور السيد عبد الحسين شرف الدين، فنَتَيَقّن مدى حدّة بصيرته التي ألهمتنا وعبّدت لنا مسار الاستقلال منذ عقود من الزمن، مُذ غزانا المستعمرون الجدُد وعاثوا فسادًا فوق الفساد الذي سبقهم.
استطاع السيد شرف الدين، بحراكه الثوري الشامل، إنشاء “أيديولوجيا” سياديّة تتضمّن عقيدة استقلال جامعة، يجب أن تكون ميثاقًا نلوذ به، علّنا نحظى باستقلالنا الضائع.
النص يعبر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة عن رأي الموقع
التعليقات مغلقة.