لبنان الفقير مقدِّمة للسقوط في أحضان التطبيع مع العدو الإسرائيلي

احصل على تحديثات في الوقت الفعلي مباشرة على جهازك ، اشترك الآن.

شهد لبنان في ستينيات وحتى منتصف سبعينيات القرن الماضي ازدهارًا وبحبوحة اقتصادية وتجارية واستقرارًا سياسيًا وأمنيًّا حيث أضحى موضع تطلع المستثمرين من العرب والغرب وازدهرت التجارة والترانزيت والحركة المصرفية، وشهدنا مصارف عالمية وعربية تنشئ فروعًا لها في لبنان. كما نشطت الحركة السياحية من فنادق ومطاعم ومنتجعات على الساحل وفي الجبال وقدوم السواح من مختلف الجنسيات، وأصبح لبنان في ذلك الحين مستشفى العرب وجامعتهم وفيه الجامعات العريقة النشأة الوطنية منها والأجنبية، وانتشرت الكفاءات اللبنانية الطبية والتعليمية والتخصصية حول العالم وفي الدول العربية والخليجية كافة خاصة بعد طفرة البترول في تلك الدول أواخر الستينات، وازدهرت دور النشر والطباعة حيث كانت كتب العرب تطبع في لبنان، حتى قيل القاهرة تكتب وبيروت تطبع وبغداد تقرأ. وعرفت الصحافة الحرة اللبنانية والعربية والأجنبية مقرًّا لها في بيروت واجتمع فيها صحفيو العالم ومؤسساتهم وخاصة العرب منهم حيث لم تكن قيود عليهم في كتاباتهم وآرائهم ولأنهم كانوا عرضة للتضييق والمنع عن التعبير عن الموقف السياسي الحر إلى حدّ الاعتقال في دول الرجعية العربية. كما وجدت المقاومة الفلسطينية وقضية فلسطين منذ أواخر الستينيات وحتى تاريخه ملجأً وحضنًا وسندًا لها من القوى الوطنية والتقدمية والإسلامية في لبنان بعد تخلّي ما يسمى بدول المواجهة عنها والتنكيل بها.

رغم الحرب الأهلية التي حصلت بمخططٍ من قوى الانعزال التي ارتبطت بالمشروع الإسرائيلي في المنطقة وعلى مدار 15 عامًا ( 1975 – 1990 ) لم يفقد لبنان ذاك الدور المحوري كصلة وصل بين العالم العربي وأوروبا والغرب، حيث استمرت الأعمال والاستثمارات وحركة الترانزيت والنقل من وإلى لبنان ومنه للعالم العربي والخليج ولو بوتيرة بطيئة ومتفاوتة، ولم تكن نتائجها سيئة أبدًا نتيجة الدور والموقع الذي كان يشغله لبنان على مستوى المنطقة قبل أن تطل برأسها أوهام السلام وسقوط الأنظمة المستسلمة الواحد تلو الآخر من كامب ديفيد إلى أوسلو ووادي عربة وما تلاها من سقوط مريع ووقح في فخ التطبيع من دول خليجية هجينة وما خفي عن دول أخرى هو أعظم.

لستُ ممن يعيشون وهم المؤامرة ونظريات التآمر التي يعتنقها الكثيرون، إنما أعتقد أننا بقراءة بسيطة وهادئة ومعمقة واعية وبعينٍ ثاقبة نستطيع جمع تفاصيل الصورة العامّة للأحداث ودراستها وتحليلها وربط عناصرها ببعضها البعض حتى نكوّن رؤية واضحة لمجريات الأمور وحتى نبني رأينا وموقفنا على أرض صلبة تسمح لنا باستشراف الأحداث بواقعية وهدوء.

بعد الحرب عاش لبنان سنوات من الاستقرار السياسي والمالي والاقتصادي والاجتماعي نتيجة السياسات التي اعتمدت على مدار خمسة عشر عامًا حيث بدأ هذا الاستقرار يتداعى فوق رؤوس الممسكين به ومحركيه من الطبقة السياسية والاقتصادية والمالية منذ صدور القرار الدولي 1559 ولاحقًا استشهاد الرئيس رفيق الحريري في العام 2005 وما تلاها من أحداث دراماتيكية عاشتها البلاد والعباد ومحاولات الانقلاب على التوازنات الداخلية التي كان يرعاها الوجود السوري بتفاهمات دولية، حيث لم يشهد لبنان منذ ذلك الحين استقرارًا سياسيًّا وأمنيًّا واقتصاديًّا وانقسمت البلاد عموديًّا بين قوى الثامن والرابع عشر من آذار، وتبدلت الحكومات ومدد للمجلس النيابي وأرجئت الانتخابات الرئاسية وحصل الفراغ في سدة الرئاسة الأولى حتى تاريخ انتخاب الرئيس العماد ميشال عون في العام 2016 حيث أصبح تشكيل الحكومات من المعاجز والأعمال الخارقة وصولًا إلى العام 2018 والذي شهد انتخابات نيابية لم تأتِ حساباتها على قدر بيدر الأمريكيين والخليجيين وأتباعهم في لبنان.

عادةً المخططون يضعون خططهم بشكل متسلسل وترادفي، حيث إن ذلك المخطِّط يرمي بخططه وبدائلها لتنفيذ مآربه ولتحقيق أهدافه. وكما قلنا فإنَّ انتخابات العام 2018 لم تأتِ على قدر تطلعات المحور المعادي للمقاومة في لبنان ومَن وراءهم، وبدأت إرهاصات الإخلال بالوضع القائم في البلاد تظهر من خلال إنتاج الأزمات الاجتماعية والمعيشية الواحدة تلو الأخرى. وهذه الأزمات المفتعلة هي الأقدر على تحريك الشارع وغوغائه حيث إنه بين ليلة وضحاها انهارت منظومات الدولة المالية والتجارية والاقتصادية بأكملها كأحجار الدومينو وحصل شلل شبه تام في إداراتها وفقدت القدرة على إدارة السوق والتحكم به والسيطرة عليه ووقف انحداره السريع نحو الهاوية، وظهر أنَّ شورى المال والتجار في لبنان ورعاتهم الداخليين وارتباطاتهم الخارجية وانصياعهم للإملاءات الغربية والخليجية تحكم قبضتها على عنق الدولة والوطن بأكمله وتنفذ سياسات تهدف إلى إغراق المواطن في أزمات معيشية قاسية متصاعدة ومتتالية بهدف تثويره ودفعه للانتفاض على الواقع القائم المفتعل.

بدأت حركة الشارع أو ما يسمى “حراك 17 تشرين” بعملية فوضوية كبيرة وشبه شاملة، قطعت الطرقات واعتدي على المواطنين وعطلت مصالح الناس وهوجمت بعض المؤسسات الرسمية وتم تخريبها وفقًا لتوجيهات محددة لعبت دورًا اساسيًّا فيها السفارتان الأميركية والسعودية في بيروت وبعض السفارات الأوروبية والخليجية كلٌّ من خلال مجموعات مرتبطة بها تعمل وفق أجنداتها وتحصل على التمويل اللازم لحركتها. وقد لوحظ دفع أموال طائلة وعقدت الاجتماعات داخل السفارات المذكورة وأعطيت الأوامر وحددت المهام: المطلوب الوصول إلى دولة فاشلة بهدف إسقاطها ومعها إسقاط القوى الوطنية الحريصة على هذا الكيان وبقائه سيدًا حرًّا ممانعًا ومقاومًا بوجه أطماع إسرائيل، ليسهل قلب الموازين السياسية فيه والإتيان بمجموعة حاكمة خانعة تسير في مخطط التطبيع والسلام مع العدو الإسرائيلي، تؤازرهم ماكينة إعلامية مأجورة ومدفوعة التكاليف ومبرمجة التصويب والاستهداف من محطات فضائية عربية ومحلية ومواقع إنترنيت وذباب إلكتروني، خليطٌ عجيب عمل ويعمل على تحريض الغوغاء في الشارع تضخ أخبارًا كاذبة وتفبرك أحداثًا غير واقعية هدفها المزيد من رفع منسوب الحنق والغضب لدى النّاس الفقراء والمغرَّر بهم، وما الشعارات التي رفعت خلال الحراك المذكور والاستهدافات المقصودة والموجهة لجهات معينة إلا دليل واضح على هذا المخطط وأهدافه.

أسقط هذا المشروع الفوضوي الهجين في أيامه الأولى وتحول إلى حركات غوغائية تشويهية وتخريبية زادت من حدّة الأزمات الاقتصادية وتدني الثقة بالاطمئنان والأمان لما سببته من شلل للحركة الاقتصادية والإنتاجية والسياحية وتفلتٍ أمني في البلاد، وأدّت أيضًا إلى حصول مواجهات في الشارع بين المواطنين المتضررين والمسببين لهذه الفوضى منذرة بمواجهات بين الشوارع المتقابلة كادت الأمور في بعضها أن تصل إلى ما لا تحمد عقباه.

حصل الانفجار المزلزل في مرفأ بيروت وأدّى إلى تدميره وتعطيله وسقوط مئات الشهداء وآلاف الجرحى وألوف المشردين من منازلهم ومؤسساتهم المهدمة والمتضررة جرّاء الانفجار، وسريعًا كان الاستثمار على دماء الناس وآلامها ونسجت السيناريوهات واستكملت حلقة الاستهداف والاتهامات والتصويب على قوى وشخصيات محددة تحميلًا لها وزر الكارثة الإنسانية التي حصلت، كل هذا كان بإيحاءٍ من الجهات الغربية والخليجية ذاتها وبتمويلٍ سخي لمئات الجمعيات التي نشأت على عجل وتحت عناوين إنسانية وإغاثية وبتواطؤٍ من جهات سياسية وقضائية بهدف تجهيل الفاعل والمسؤول عن هذه الفجيعة التي أصابت اللبنانيين جميعًا في الصميم ودمَّرت نصف عاصمتهم بيروت، هذا الفاعل المستفيد الأول من تدمير وخراب هذه المنشأة الحيوية للبنان وما تلعبه من دور أساسي في اقتصاده وحركته التجارية والنقل والترانزيت بين الدول، هذا التدمير الذي يخدم منشآت الكيان الغاصب وموانئه الطامحة لأخذ مكانة ودور لبنان وموانئه على الساحل الشرقي للمتوسط.

استكمل المخطط التخريبي في تبديد ودائع الناس بين المصارف وحاكم مصرف لبنان، وعاشت الناس وما تزال في دوامة ضياع مدخراتها في عملية نصب واحتيال لم يُشهد لها مثيل في تاريخ لبنان الحديث منذ إنشاء شركة سوليدير في وسط بيروت وضياع ملكيات اللبنانيين بقانون وتحويلها إلى أسهم لا تسمن أو تغني عن جوع. وتوالت فصول المخطط في فقدان المواد الحياتية الأساسية من غذاء ودواء ومحروقات وارتفاعٍ في اسعارها وفقدان الكهرباء والماء وتدني القيمة الشرائية لليرة اللبنانية وفوضى سوق العملات الأجنبية وانعكاسه على مجمل الحركة التجارية في البلاد مما زاد في معاناة اللبنانيين وتأمين قوت عيشهم، ناهيك عن عشرات شبكات التجسس الإسرائيلية التي أعلن عن اكتشافها وعناصرها من الأنموذج الرخيص في العمالة، هذه الشبكات التي استفاد العدو الإسرائيلي من الظروف الاجتماعية والحياتية والتشنجات السياسية القائمة لتجنيد أعضائها من الحاقدين والناقمين على الأوضاع العامّة أو على المقاومة حيث سقطوا في فخ التعامل مع العدو وعملوا على جمع المعلومات ونشر الشائعات المغرِضة بتوجيهٍ من مشغليهم.

هذه السردية حول تتالي الأزمات وتلاحقها المبرمج والمخطط وتداعياتها المختلفة ووفق مسارها الانحداري قريبًا حتمًا ستؤدي إلى فقدان النظام العام وانفلات الوضع في البلاد وفوضى أمنيَّة واجتماعيَّة وزد عليها تسلط وجشع التجار وأصحاب المال أكثر فأكثر، واهتراء الدولة وسلطتها وقدرتها على إدارة البلاد وتعطيل مرافقها وعدم توفير الحد الأدنى من حاجات المواطنين اليومية في تخلٍّ واضح عن مسؤولياتها، جميعها حتمًا ستوصل إلى الدولة الفاشلة والفقيرة بسبب هذه المخططات الخبيثة من قبل الأميركيين والخليجيين وأتباعهم المرتهنين لسياساتهم وإملاءاتهم في داخل لبنان، وهي حتمًا تلتقي مع آمال وتطلعات وأهداف العدو الإسرائيلي إن لم تكن منسّقة معه في مخطط إسقاط لبنان وإفقاره وإلغاء دوره المحوري في المنطقة وعلى مختلف الصعد وأن يكون الكيان الصهيوني البديل والجاهز وقناة الوصل بين دول شرق المتوسط والغرب عبر مطاراته ومرافئه وخاصة مرفأ حيفا وفق مشروع “ Track for Regional Peace “ والذي أطلق العام 2018 حيث سيشكل هذا المرفأ في حيفا نقطة الوصل بين المتوسط وأوروبا والخليج العربي مع الشروع في إنشاء سكك حديدية بين الكيان الغاصب والسعودية والإمارات عبر الأردن مضافًا إليه مشروع مد أنابيب الغاز إلى أوروبا عبر قبرص واليونان وإيطاليا كجزء من طموحات هذا الكيان المؤقت أن يكون مرتكزًا اقتصاديًا وماليًا وسياسيًّا ونفطيًّا في المنطقة، وما دعوات التطبيع والاتفاقات التي أبرمت إلا واحدة من خطوات تحقيق هذه المخططات والأهداف.

نحن لا نتحدث عن أوهام أو تهيؤات وأضغاث أحلام بل هي قراءة موضوعية وتحليلية لوقائع ومعطيات في آنٍ معًا لسلسلة الأحداث وتدرجها وفق أجندة مخطط لها مسبقًا وتُوصِلُنا إلى هذا الاستنتاج للفوضى القائمة في لبنان وتعطينا صورة واضحة عن هذه الخطة الخبيثة التي ظهر البعض من تفاصيلها تباعًا عبر وسائل الإعلام الصهيوني وأوضحها كان مقالة الكاتبة الصهيونية ” ميران خويص – طالبة دكتوراه في هندسة المواصلات” وذلك على الموقع الإلكتروني باللغة الإنكليزية لـــــ “جريدة هآرتس ” في الخامس عشر من شهر أيلول / سبتمبر من العام 2020 أي بعد شهر وبضعة أيام تقريبًا من كارثة المرفأ في بيروت وقبل لملمة أشلاء ضحاياها ورفع أنقاضها، مقالة تحت عنوان: ” كيف سيتم إجبار لبنان على الذهاب إلى السلام مع إسرائيل – How Lebanon May Be Forced to Make Peace With Israel “، وما مجاهرة الإعلام الصهيوني وباحثيه بالقول إن إفقار لبنان وسقوطه ومظهر الحكم الضعيف فيه وإلغاء دوره الحيوي والمحوري في المنطقة وعلى شواطئ المتوسط وتحويله إلى ضاحية “إسرائيل الفقيرة” إلا تأكيد على الأصابع الصهيونية في كل ما يجري من أحداث على الساحة اللبنانية ومقدمة لارتمائه في أحضان السلام الموهوم والتطبيع الهزيل مع العدو الإسرائيلي.

النص يعبر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة عن رأي الموقع

التعليقات مغلقة.

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على ذلك ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. قبول قراءة المزيد