د. أحمد الشامي _ خاص الناشر |
بديهي أن تلحظ أشخاصًا يعجز الغياب عن إدخالهم في دائرة النسيان، لكن الملفت في الذين يزداد حضورهم فاعلية، تألقًا، كلّما طال غيابهم، وكأنّ هذه الأنفس قد استحال جسدها إلى سجن آسر ما عادت جدرانه جديرة باستيعابها، حتى إذا أمكنها أن تتفلت منه، وجدت في اتساع الوجود مجالًا لحضور بلا حدود.
تثبت الوقائع أن الإمام موسى الصدر هو مصداق لهذا النوع من البشر في هذا العالم. وقيمة هذا الادعاء، ابتعاده عن كونه مغالاة، عصبية، أو مجرد ميول عاطفية. فليس من باب المصادفة حجم التقارب الزمني بين المدة التي مرّت على تغييب الإمام الصدر وبين ما شهدته منطقتنا خلالها من تغيرات سريعة ومذهلة، حيث كان لشيعة لبنان الدور المحوري فيها. إذ تقتضي الموضوعية والإنصاف القول إن هذا الدور المستجد والمتنامي لشيعة لبنان ما هو إلّا ثمرة لجهود أحدثت انعطافة في وعيهم والسلوك، وكان للإمام الصدر دوره الطليعي في ذلك، لا سيّما في خمسة مجالات:
أولًا: إعادة إحياء لدور الفقيه الشيعي في قيادة الشأن العام، بعد إقصاء دام لعقود طويلة جدًا من الزمن، تعود بجذورها إلى إمامهم الأول، وما تبعها من اضطهاد وتنكيل، إلى حد إخراج فقهائهم من جماعة المسلمين والحكم عليهم بالكفر، وما يستوجبه من قتل، والشهيد الأول الفقيه الجزيني نموذج صارخ ومعبر.
ثانيًا: التأكيد على العقل الجامع للدين في وعي الإنسان الشيعي، فالآخر إما أخ له في الدين أو نظير له في الإنسانية، فصارت وحدة المسلمين أولويته، وفلسطين قضيته، واحتضان المسيحيين مسؤوليته، والوقوف إلى جانب المضطهدين والمعذبين عين عبادته.
ثالثًا: حمل راية المقاومة بوصفها التعبير الأبلغ عن الإنسانية، وعن المجتمع الطبيعي الذي يتطلع للعيش مع المجتمعات الأخرى بسلام واستقرار، في حياة ترتقي صعودًا نحو كمالها الإنساني، بعيدًا عن الظلم والاحتلال والاستغلال، فصار الشيعي مقاومًا بالضرورة.
رابعًا: توحيد شيعة لبنان على اختلاف انتماءاتهم المناطقية والعائلية، بعدما استطاع المستعمر الأجنبي ثم الحاكم المحلي أن يشرذمهم، ويشتت شملهم، نحو انقياد أعمى لإقطاعيات متعددة، وولاءات زعاماتية زبائنية، تحكمها الحاجة والعوز والجهل.
خامسًا: لقد أسس لهذا الوجود المقاوم الناهض في لبنان امتداد خارجي بدأه من سوريا، وثوار من إيران، وفلسطين، في محاولة منه لإيجاد توازن قبالة محور غربي امبريالي اتخذ من الكيان الإسرائيلي قاعدة له في المنطقة.
إن قدر الأشخاص أمثال السيد موسى الصدر ممن تقع مظلوميتهم بيد الله بوصفهم شهودًا للحق وللحقيقة، أن يبقى حضورهم على الأيام، ويكبر، وينتصر.
النص يعبر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة عن رأي الموقع
التعليقات مغلقة.