تترنح الأمبراطورية الأمريكية حاليًّا نتيجة صعود ثلاث قوى آسيوية، وهذه القوى وإن كانت مساراتها السياسية مختلفة إلاّ أنها تتلاقى في نقطة أساسية جعلت قواها تتركز تلقائيًّا كثقل مركزي لإرهاق وتقويض السلطة العالمية للولايات المتحدة.
بنت الولايات المتحدة قدراتها الحالية على مبدأين: المبدأ الأول: السيطرة على مصادر الطاقة العالمية وإمداداتها. المبدأ الثاني: سلسلة التحالفات والشراكات الدولية على كافة الصعد الإستراتيجية والاقتصادية والعسكرية والأمنية.
بعد انهيار الاتحاد السوفياتي وإزاحة روسيا من المواجهة الإستراتيجية انتقل الثقل الأمريكي إلى منطقة غرب آسيا من خلال حضور عسكري مباشر كان صعبًا تحقيقه خلال فترة الحرب الباردة نتيجة التوازنات الدولية مع السوفيات، واستثمرت الولايات المتحدة عبثية النظام العراقي السابق وضعف أنظمة الخليج للتموضع مجددًا على ضفاف أهم مصادر الطاقة العالمية بعدما فقدت حليفها الإستراتيجي وشرطي الخليج الذي كان يؤمن مصالحها الشاه محمد رضا بهلوي.
تحولت منطقة غرب آسيا إلى حالة استنزاف للقوى المتحالفة مع الولايات المتحدة، وخلال عشر سنوات من بعد الاندحار الصهيوني عن جنوب لبنان والذي كان بمثابة خط دفاع أول عن الوجود الأمريكي في المنطقة. وقد ثبت للولايات المتحدة أن هذه الهزيمة هي سقوط أول أحجار الدومينو في سلسلة التحالفات التي بنتها في المنطقة، لذلك استعر الحراك الأمريكي من خلال عدة خطوات أولها تعزيز حضور واشنطن العسكري في أفغانستان والعراق واحتلالهما بسرعه في محاولة لاحتواء الجمهورية الإسلامية والتي تعد نقطة الارتكاز المعادي للولايات المتحدة بحيث تصبح مطوقة بشكل مباشر من كل الجهات ما بين قواعد عسكرية أمريكية وغربية وأطلسية من شرقها إلى جنوبها وغربها مع امتداد يصل إلى آذربيجان في شمالها.
عندما أدرك أن حضوره العسكري المباشرغير كاف لحماية مصالحة، قفز الأميركي لتفجير سلسلة من الثورات الملونة لتشكل مجموعة من الزلازل والهزات الارتدادية والتي كان هدفها الأساسي تحويل الإقليم الممتد من تونس إلى الجمهورية العراقية الى مجموعات من العشائر والقبائل المتناحرة على أسس طائفية وعرقية ودينية مع دعم أساسي ومباشر لمجامع التكفير المتشكلة كجيش بديل يعمل لصالح الولايات المتحدة ومساعدتها في تفتيت المنطقة.
هذه الثورات الملونة وما انبثق من تحت ستارها من الجيوش السوداء كانت بحاجة إلى تمويل هائل لتسليحها وتجهيزها ودعمها ونقل قواتها بشكل دائم ومستمر على مدى عشر سنوات، وهذا التمويل تعهدت به دول الخليج النفطية، وصرفت خلال عشر سنوات في سوريا ولبنان والعراق مئات المليارات من عائدات النفط في محاولة للسيطرة على هذه الدول الثلاث بشكل خاص لتقويض وإنهاء وجود القوى المعادية للولايات المتحدة. ومع بداية إرهاصات الفشل في هذه الدول تحول جزء أساسي من الجهد الأمريكي إلى اليمن، وتحملت السعودية والإمارات كافة العبء المالي والعسكري في هذه الحرب. وكذلك الأمر لم تؤدِ هذه الحرب إلا الى إحراق مئات المليارات الإضافية دون تحصيل الهدف المنشود.
بعد صمود قوى محور المقاومة خلال أكثر من عشر سنوات وفشل سلسلة الحروب المتنقلة التي شنت عليها بل أوصلت قوى محور المقاومة الى امتلاك جيوش مدربة وذات خبره عالية في طبيعة الحروب الجديدة لا يمتلكها أحد في العالم وإلى تكوين مشهد جديد بحيث أصبح لقوى المقاومة انتشار ساحلي واسع مع انتشار برّي في العمق يبدأ من المتوسط والبحر الأحمر والخليج ويصل إلى عمق آسيا على الشكل التالي:
1 ـ زادت مساحة انتشار هذه الجيوش وامتلكت عمقًا استراتيجيًّا كبيرًا يمتد من البحر المتوسط الى الجمهورية الإسلامية مع تواصل فيزيائي ملموس.
2 ـ انتشار جزئي على ساحل فلسطين المحتلة (قطاع غزة)، وعلى الساحل اللبناني والسوري ما يعني أن اليد العليا على ساحل المتوسط الشرقي هي لمحور المقاومة.
3 ـ انتشار مهم وحيوي في اليمن على سواحل البحر الأحمر الجنوبية ومضيق باب المندب.
4 ـ قوة استراتيجية مهمة في الخليج وبحر العرب والمحيط الهندي متمثلة بالجمهورية الإسلامية وأذرعها البحرية والصاروخية.
5 ـ قوة فاعلة جدًّا في العراق متمثلة بالحشد الشعبي.
6 ـ ظهور قوي لفصائل أفغانية وباكستانية في كل من أفغانستان وباكستان متحالفة مع قوى محور المقاومة ومشاركة معها في العمليات العسكرية.
غاز المتوسط الطاقة البيضاء لأيام الغرب السوداء
سرّعت الأزمة الأوكرانية في انكشاف الضعف الأمريكي العالمي، بعدما كانت الولايات المتحدة هي الضامن الأساسي لإمدادات الطاقة العالمية وبأسعار مخفضة جدًّا؛ فمع التصادم الروسي الغربي في أوروبا والتهديد الروسي الضمني بقطع الغاز وإغراق أوروبا بالبرد وإغلاق مصانعها نتيجة العقوبات المفروضة على روسيا، وقعت الولايات المتحدة بين حاجة حلفائها الأوروبيين للطاقة من روسيا، وبين منع الروس من الاستفادة الاقتصادية الكبيرة الناتجة عن بيع الغاز لأوروبا.
من المعلوم أن هناك عدّة بقع في العالم فيها كميات هائلة من النفط والغاز، إنما عملية استخراجها مؤجلة نتيجة عدة عوامل منها عدم خفض أسعار الطاقة عالميًّا ومنها العامل السياسي من ناحية السيطرة على هذه المنابع، وعلى سبيل المثال بحر الصين الجنوبي والبحر المتوسط الذي سرّع الأمريكي في الآونة الأخيرة عمليات التنقيب والاستخراج فيه لمحاولة تغذية السوق العالمي بكميات جديدة من الغاز مع الأخذ بعين الاعتبار قربه من الأسواق الأوروبية وبعده عن الممرات البحرية التي يمكن إغلاقها بسهولة من قبل قوى محور المقاومة.
إلا أن المستجدات التي وقعت نتيجة الحصار الأمريكي على لبنان ومنعه من استخراج الغاز ومحاولة الولايات المتحدة تدمير المجتمع اللبناني والبيئة الحاضنة للمقاومة فرضت معادلة جديدة تمنع استخراج الغاز من كامل سواحل شرق المتوسط وضخه نحو أوروبا، إن لم يسمح للبنان بالقيام بالتنقيب والاستخراج والحفاظ على كامل الثروة الغازية في البحر ومنع العدو الصهيوني من التعدي عليها. وبذلك يزيد الموقف الأمريكي تأزمًا ويزيد من ظهوره بمظهر العاجز أمام العالم أجمع وبالأخص أمام حلفائه وشركائه.
الفرصة الذهبية لمحور المقاومة للمبادأة بالحرب بعد عقود طويلة من الحروب الدفاعية
مع طرق الحرب في أوكرانيا أبواب أوروبا تحولت الحروب التي شنت على محور المقاومة خلال العقد الأخير الى فرصة ذهبية في الوقت الحاضر لأننا إذا نظرنا إلى كافة الحروب السابقة التي شنت علينا فإننا نجد أن العدو اعتمد فيها على مرتكزين:
1ـ الدعم المالي وتغطية تكاليف الحرب، وهذا ما كانت تؤمنه دول الخليج النفطية.
2ـ الدعم السياسي والتسليحي الذي كان يؤمنه الغرب بكامله.
أما بعد سلسلة الحروب التي شنت على قوى محور المقاومة في العقدين الماضيين فقد استنزفت المقدرات المالية لقوى المحور الأمريكي التي كانت تضخ المال للآلة العسكرية الأمريكية بحساب مفتوح وتبينت هشاشة الاقتصاد الأوروبي المعتمد بشكل كبير على الإمداد الروسي الرخيص للطاقة الذي لا بديل عنه في المدى المنظور. لذا فمع فقدان هذين المرتكزين يفقد العدو القدرة على شن الحرب وحتى على القيام بدفاع مجدٍ طويل الأمد، أضف إلى ذلك الانتشار العسكري الجغرافي لقوى محور المقاومة بحيث أصبحت لهذه القوى القدرة والجرأة على تعطيل إمدادات الطاقة العالمية، وهذا ما يعنيه التهديد الأساسي لقوة الولايات المتحدة العالمية. لذا فالصورة البسيطة أن قوى محور المقاومة وضعت الولايات المتحدة في مأزق كبير جعلت الرئيس الأمريكي يهرول الى منطقتنا في محاولة لتلافي إقفال مصدر الطاقة المتبقي الذي كان الأمريكيون يعدّونه آمنًا ومستقرًّا بعد رفع الروسي الورقة الصفراء على إمداد أوروبا بالغاز.
مع تغير الوجه الاقتصادي العالمي وصعود العديد من الدول الناشئة تحديدًا في آسيا بحيث لم تعد الحاجة للولايات المتحدة كما كانت سابقًا خاصة على صعيد التكنولوجيا، وبناء تحالفات وشراكات اقتصادية فيما بينها، أصبح وضع الولايات المتحدة أكثر ضعفًا حتى على صعيد حلفائها الإستراتيجيين الذين وسعوا مروحة علاقاتهم الدولية خارج الدائرة الأمريكية، وفرضت الانتكاسات الأمريكية الأخيرة التي بدأت بشكل واضح في أفغانستان وامتدت إلى أوكرانيا واليوم على ساحل المتوسط، فإن الهيبة الأمريكية التي اعتمدت سابقًا على سيف العقوبات الاقتصادية والتهديد العسكري أصابها الصدأ الشديد بعد انتهاء مفاعيلها ما بين الجمهورية الإسلامية في العقود الأخيرة، ومع روسيا في هذه الأيام. وعلى هذا الأساس تأتي زيارة بايدن الى المناطق الملتهبة بوجه الأمريكي من شرق آسيا إلى شرق أوروبا إلى غرب آسيا ما بين محاولة إنكار الواقع ومحاولة تلافي الانهيار القادم.
النص يعبر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة عن رأي الموقع
التعليقات مغلقة.