أنا حرّة

احصل على تحديثات في الوقت الفعلي مباشرة على جهازك ، اشترك الآن.

هو “يوم المرأة العالمي”.. اليوم الذي تنهمر فيه كلّ الشعارات المتعلّقة بالمرأة من كلّ غيمات الإفتراض.. لطالما تعاملت مع المنصات الإفتراضية كمقاهٍ تتيح للزائر أن يتفرّج على ما حوَت عقول الحاضرين فيها.. شيئًا فشيئًا، يصبح من السّهل التعرّف على الأنماط وأكثر، يصبح من اليسير تمييز المسارات التي تنتهجها العقول في سبيل إيصال الفكرة التي تريد.. ويصبح أيضًا من اللّطيف الشرود قليلًا في خامة الشعارات المتداولة والمستهلكة، ولا سيما في المناسبات والأيام العالمية… ما رأيكم مثلًا بشعار “حرية المرأة”؟ هيّا بنا…

بالمبدأ، وُجدت بعض الشعارات البرّاقة لتعمي أبصار المحدّقين بها عن التشوّهات التي تتضمّنها أحيانًا، وعن الأذى المبرح التي تسبّبه في بنية بعض المفاهيم. ولعلّ أحد أكثر الشّعارات التي تمّ تفريغها وتمييع مضامينها بغية إعادة تشكيلها في قالب آخر هو شعار “تحرير المرأة” أو “حريّة المرأة”.

يُصنّف هذا الشعار من ضمن قائمة ملتبسة من الحريّات التي تمّت قولبتها وإعادة صياغتها وفق رؤى فارغة بالشكل وخطيرة بالمضمون. وحرص العاملون في هذا المجال على تكريس المفاهيم المشوّهة والملتبسة وكأنّها بديهيات، بحيث يصبح مَن يُناقش فيها أو يعترض عليها عرضة لشتّى أنواع الإتهامات المعلبّة والمنمطّة. بكلام آخر، بمجرّد خوض نقاش حول ماهيّة “تحرير المرأة” أو حرّيتها، يصبح المعترِض على المفاهيم المسطّحة عدوًّا للحرية وللمرأة، ومتهمًّا بشتى أنواع التّهم: الذكورية، الجنوح إلى القمع، التمييز الجندري.. الخ.

بالبداية، لم يتفق بعد رافعو الشعار على مضمون ثابت لمفهوم الحريّة. وإن لامس بعضهم الحقيقة باعتبار حرية المرء هي سعيه أو قدرته على اتخاذ القرارات التي يراها مناسبة وتحمّل تبعاتها وأثمانها، فقد سقط الكثيرون في أفخاخ كثيرة حين قاربوا موضوع “حرية المرأة”. وإن سلّمنا جدلًا بصفاء النوايا، يمكن القول أن الكثير من المتحدثين عن تحرير المرأة أو حريتها وقعوا في خطيئة تحويل مفهومهم الخاص عن “الحرية” إلى قاعدة ينطلقون منها إلى تصنيف النساء بحسب مفهومهم هذا، وبالتالي يسقطون عنهنّ حقهنّ بترجمة مفاهيمهنّ المختلفة الناتجة عن حريّتهن في فهم وممارسة هذه “الحريّة“.

مثلًا، يرى الغربي وسائر المستغربين في مجتمعاتنا أن الشرقيّات يفتقدن إلى الحريّة. هذا التصنيف بحدّ ذاته هو انتهاك لحرية الشرقيات في اختيار نمط حياتهن. وكذلك يرى أبناء البيئات “المتحرّرة” أن نساء البيئات “المحافظة” يفتقدن إلى الحرية حتى وإن قالت المحافظات أنهن اخترن، بكلّ حريّتهن، النمط المحافظ.

وعلى هذا المنوال، يحاكم الجميعُ الجميعَ بناءً على المفاهيم التي تتعدّد وتصل حدّ التباين بسبب سوء استخدامها، ويغفلون بالأساس أن هذه المحاكمة بحدّ ذاتها هي انتهاك صارخ لأصل معنى الحرية.

بعد التفريغ الحاصل للمفهوم وتحويله إلى شعار يهدف إلى تظهير كلّ نموذج لا يشبه النموذج الغربي على أنّه نموذج غير حرّ، ويتوجه ضدّ كلّ نمط يختلف عن النمط التسليعي للمرأة شكلًا وروحًا وقيمة، أصبح من الجيّد التذكير بأن الحريّة نزعة تنشأ وتنمو في ذات المرء ولا تُلقَّن، وأنّها نمط مقترن بالمسؤولية وبالوعي ويسقط بانفصاله او بفصله عنهما. 

*”أنا حرة…”* ليست عبارة تامّة… هي تكتمل معنويًا بما يليها، فتعكس المعنى الحقيقي للحرية أو تشوّهه. بكلام آخر، تكتسب عبارة “أنا حرّة..” وزنها المعنوي الحقيقي حكمًا ممّا يليها من كلمات.. فمثلًا عبارة: أنا حرّة بالتجوّل عارية على الشاطىء أو أنا حرّة باتخاذ قرار الإجهاض وغيرها من العبارات المشابهة تدلّ على انتهاك حقيقي لأصل مفهوم الحرية المقترن دائمًا بالمسؤولية وبالوعي. وهنا يخرج النقاش من دائرة “حرية المرأة” التي أُقحم فيها لتمييعه أو لتمريره وتكريسه كفعل مرتبط بالحرية.

في المقهى الإفتراضي، كتبت سيّدة منشورًا حول ما تعرّضت له من إساءات معنوية واتهامات بالرجعية وبالخضوع للقيود الدينية لأنّها قرّرت ارتداء العباءة.. المضحك المبكي في الأمر أنّ الذين قاموا بالإساءة وبالإتهام هم أكثر المتكلمّين عن “حريّة المرأة”. 

وتتحدث أمّ صبية عن حجم الإنتهاك المعنوي الذي تعرّضت له حين قرّرت ترك عملها للتفرّغ لتربية طفلتها على اعتبار أنّ قرارها هذا يعكس كونها مقيّدة وغير حرّة.. فيما تهمس أخرى عن كمية الاتهامات التي مسّتها وأدانتها كامرأة حرّة حين قرّرت العودة إلى طليقها بعد أن اتفق المتحرّرون أن قرارها هذا نتج عن خضوعها للمجتمع الذي بالعادة لا يستسيغ صفة المطلّقة، ولم يخطر ببال أحد منهم أنّها حرّة في قرار كهذا.. وأمثلة كثيرة، وكلّها تسلب من المرأة الإنسان حريّة إتخاذ القرار بداعي “الحريّة”.

ما يحدث هنا يكاد يكون عارضًا انفصاميًا واضح المعالم. فمفهوم الحرية في ذهن هؤلاء مشوّه تمامًا، إلى الحدّ الذي يصبح فيه مرادفًا للخضوع للنموذج المعلّب والجاهز ومحاولة الإخضاع له، و يتضمّن التجاهل المسيء لمعنى الحرية الضامن لحقّ الشخص، كلّ شخص، بفعل ما يناسبه بشرط عدم التعدي على حرية الآخرين.. 

“أنا امرأة حرّة…” في زماننا هذا لا تعني فقط الحق باختيار النمط وتحمّل تبعاته… هي تعني اليوم القدرة على التحدّي، على عدم الخضوع للنموذج الجاهز، على خوض الصعاب من أجل تحقيق الذات في المكان الذي نختاره لها، وبالمظهر الذي يناسبها، وإن كان لا يناسب جمع حمّالي الشعارات الدّاعين إلى عبودية بماكياج حديث والكثير من البريق، والخواء.

نُشر في مدوّنة فُتات

النص يعبر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة عن رأي الموقع
اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على ذلك ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. قبول قراءة المزيد