بعد نحو سنتين ونصف من بدء الأزمة الاقتصادية الأعنف في تاريخ لبنان الحديث والمعاصر، تغير نمط حياة اللبنانيين بوتيرة سريعة لم يعهدوها سابقًا، فجاءت الأزمة بمثابة صدمة لم يستوعبها أغلب اللبنانيين حتى اليوم. مجتمع فقد قيمته الشرائية وجيل ودّع مستقبله قبل أن يبدأ. هذا حال أغلب اللبنانيين، فكيف كان تطوّر تصرفاتهم منذ بدء الأزمة حتى اليوم؟
مرحلة الغموض
ما إن أعادت المصارف اللبنانية فتح أبوابها أمام الناس ومعرفة الناس بفقدان المصارف للسيولة اللازمة لتسليم أصحاب الحسابات نقودهم حتى بدأ الهلع؛ طوابير طويلة تنتظر بالساعات أمام المصارف كي تأخذ جزءًا من مالها المحتجز والمنهوب من قبل المصارف، فبدأت بإعطائهم 300 دولار في الأسبوع ثمّ صارت 100 في الأسبوع ثمّ صارت 100 في الشهر ثمّ صارت هباءً منثورًا. وبدأت بتسليمهم إياها على سعر الصرف الرسمي فقط (ودائع الدولار).
تصرّف المودعين
في هذه المرحلة، كنا لم نتعرف بعد على كورونا، ومع ذلك كانت الأسواق والمطاعم والمقاهي فارغة. كان الناس في صدمة واعتبروا أنّ ما يحصل هو شيء مؤقت، فبدأوا بالتقشف وصرف كل ما في متناول أيديهم من الليرة إلى عملة الدولار باعتبار أن هذا ما سيبقى معهم.
تصرّف أصحاب المحالّ التجارية والخدماتية
كباقي الشعب تعرّض أصحاب المحال التجارية والخدماتية على أنواعها لسرقة ودائعهم كذلك، وزادت الطين بلة قلة الحركة التي رافقت هذه المرحلة، فعمد أغلبهم في البداية لتحويل رواتب وأجور الموظفين في مؤسساتهم إلى الليرة اللبنانية بالتزامن مع تغيير أسعار السلع بشكل يومي ليتناسب مع سعر صرف الدولار والحفاظ على هامش ربح.
تصرّف الحكومة: مرحلة الدعم المشروط
أدّى تشكيل حكومة حسان دياب وكورونا لخروج الناس من الشارع وإغلاق البلد، فبادرت حكومة سارقي الوقت لتبديد ما بقي من احتياطي في مصرف لبنان على دعم المواد الأساسية من قمح ومحروقات وأدوية وبعض السلع الغذائية. الدعم أبقى على ثمن تلك البضائع منخفضًا، ولكن ما جرى من احتكار وتخزين أدى لطوابير ذل قضى فيه اللبنانيون أوقاتهم على طوابير الأفران والمحطات والصيدليات، وما جرى من تدافع وتضارب، وفي بعض الأحيان إطلاق نار حتى في الأسواق التجارية.
كان المشهد يشبه مشاهد أفلام الرعب، جائحة تفتك بالبشرية ترافقت مع غلاء غير مسبوق وذلّ ممنهج مدروس متعمّد لشعب بكامله. كان هذا بالنسبة للعديد من الناس نهاية العالم وزادت صدمتهم بالمشاهد السوريالية اليومية التي رفضوا أن يصدقوا أنها سوف ترافقهم مدى الحياة وأن هكذا أصبحت الحياة بالنسبة إليهم.
ضاق ذرع الناس بالانتظار فصاروا يطالبون برفع الدعم ليرتاحوا من هذا الذلّ اليوميّ، ولكن كان هناك مخطط رياض سلامة الذي كان بكل وقاحة يعلن أنّ هناك تقريبًا 10 مليارات دولار في منازل الناس، وهذه كلها خطة حتى “بكرا بيتعوّدوا”.
في ذلك الوقت، وحين اقترب الدولار من أن يلامس الـ7000 ليرة قُبيل انفجار المرفأ، بدأت العديد من الشركات الخاصة برفع أجور موظفيها. البعض احتسب الدولار 3900 ليرة والبعض صار يعطيهم ربع أجرهم بالدولار والباقي بالليرة والبعض لم يتوقف يومًا عن دفع الأجور بالدولار الأميركي.
تصرّف الحكومة: مرحلة ما بعد انفجار المرفأ
شعبٌ متوفٍّ على قيد الحياة، يبحث عن بصيص أمل يبرهن أن هذه لن تكون آخرته وأنّ هذه لن تكون حياته للأبد. دولار يحلّق، غلاء لم يعد حتى منطقيًا، حتى باتت أسعار السلع أغلى حتى مع احتساب فرق العملة.
رافقت تلك المرحلة بداية رفع الدعم عن أغلب المواد المدعومة سابقًا، المحروقات، الطحين، الأدوية، فكانت أيضًا صدمة كبيرة لم يمتصها اللبنانيون بل تقبلوها لأنهم اعتبروا أنهم فقدوا الرغبة حتى على الاعتراض.
كانت المفاجأة في موسم الانتخابات أن أغلب الحديث السياسي لم يتناول الشق الاقتصادي، وكأن البلد لا يمرّ بأزمة اقتصادية خانقة، بل في عام 2018 كان هناك حديث في الاقتصاد أكبر من الحديث في العام 2022. انشغل الجميع بصراعات وائتلافات سياسية أدت إلى فوزهم في الانتخابات واستكمالهم الدور المتعيّن عليهم بنحر المجتمع حتى لا يبقى منه أي فقير.
اليوم نعيش حالة إحباط جماعي، إذعان أن ليس بمقدور الشعب عمل أي تغيير، فصار الأغلب يصب جلّ اهتمامه على عمله وعلمه وهجرته والوسائل التي يمكنه فيها أن يحصد المزيد من الدولارات لكي يضمن نفسه ومستقبله فحسب.
طبقة فقيرة اتسعت، طبقة غنية تماسكت، طبقة وسطى انحصرت بحملة الدولارات العالية. فجوات طبقية كبيرة تنذر بتهديدات أمنية على السلم القومي الاجتماعي. ووسط أزمات لم تنتهِ ونفق مظلم لا ضوء في آخره يبدو أن الفجوات ستتسع خاصة حين لن تعود بضعة دولارات كافية كي يعيش المواطن كفايته.
النص يعبر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة عن رأي الموقع
التعليقات مغلقة.