بعد نجاح الثورة في إيران على يد الإمام الخميني المقدس، وبعد صناعة الدولة الإسلامية، استطاع الإمام الراحل ومن معه تصديرها للجوار ثمّ للعالم.
كُثر من كانوا يعتقدون أنّ تصدير الثورات لا يتحقق في إطار الدولة، لكن هذا كان قبل تجربة الثورة الإسلامية في إيران، أما بعدها فالكلام تغيّر، فظهر أنّه من الممكن لدولة ما أن تحافظ على ثوريتها ومبادئها وتصدّرها إلى الخارج وهذا يبرهن عن مدى مصداقيتها.
قبل هذه التجربة كانت جدلية الدولة والثورة محل تشكيك البعض، حيث اعتقدوا بأنّ الدولة تقف عائقًا أمام الثوّار وتمنعهم من تصدير ثورتهم ونشرها، ذلك كون تجارب التاريخ دلّت على ذلك، فبالعودة إلى الثورتين الفرنسية والبلشفية نجد أنّ التيار الراديكالي الذي كان يحكم في ظلّ الحكومات المعتدلة بحكوماتٍ غير رسمية بعد انتصار الثورة، قد أثبت كفاءته العالية بل وكونه أقرب إلى الناس، وأكثر واقعية مع مفاهيم الثورة. إلا أنّه سرعان ما خلع لباس الثورة وأصبحت حكومته كالحكومات التي سبقتها تحكم باسم نفسها فقط، وتعاكس إرادة الشعب.
في قراءة سريعة لواقع الحكومات المعتدلة بعد الثورتين الفرنسية والبلشفية نجد أنّ الاثنتين كانت لهما شعبية واسعة الأمر الذي كان مختلفًا عن الثورة الإسلامية في إيران حيث تمكّن التيار الثوري فيها من الظفر بالشعبية الساحقة والجماهيرية شبه المطلقة أمام التيار الليبرالي الذي كان حبيس الفئة القليلة والتأييد الضئيل. ولكن في الثورات الثلاث يبدو جليًّا الفشل الذي نتج عن الممارسات الخاطئة للحكومات المعتدلة، ما جعل التيار الراديكالي البديل المنطقي لها، الأمر الذي مهّد لإجراء التغيير الجذري الذي نادت به أيام الثورة، كفرصة تاريخية لهم خلافًا لليبراليين والمعتدلين الذين كانت خططهم مبنية على الإصلاحات التدريجية والتعاطي المرن مع القضايا.
عادةً ما يفضّل أبناء العامة من المجتمع التغيير الفوري والجذري، وبالتالي حلول الحكومات الراديكالية مكان تلك الليبرالية والمعتدلة كان محل رضى العامة. طبعًا لا يعني هذا الأمر أنّ الاستلام للسلطة سيتم بشكلٍ سريع أيضًا، بل يتم على شكلٍ تدريجيّ عبر السجالات والصدامات والإعلانات عن مشاريعها، وعليه الانتقال من اليمين إلى اليسار يتطلّب وقتًا وفترة ثقة من أجهزة الدولة التي ستتعاون فيما لو شعرت أنّ الحكومة الراديكالية القادمة هي حكومة قادرة.
ولا يخفى على أحد أنّ النجاح في الأغلب هو حليف من يحظى برضا العامة، فهذه الجماهيرية تجعل من الناس سندًا للحكومة وعونًا لها؛ وهذا ما حصل مع اليعاقبة في فرنسا، والبلاشفة في روسيا، والمتدينين في إيران، فقد سيطر هؤلاء الثلاثة بشكلٍ كامل على الحكم عبر إقصاء معارضيهم.
من الأسباب التي تُعطي للثوّار السطوة على خصومهم مهارة القادة الراديكاليين وتطابق التنظيمات الثورية مع أساليبها وأفكارها، هذا الأمر الذي كان غائبًا عن الليبراليين الثلاثة “الكادت الروسي، الفويان الفرنسي، الوطنيين الإيرانيين”. وقد كان جليًا في تلك الحقبة أنّ هناك أزمة ثقة بين الليبراليين والمحافظين، فضلًا عن عدم مراعاة الليبراليين لشعور الجماهير بضرورة التغيير السريع بل كان جلّ همهم هو تطبيق نظرياتهم، وبعبارة أخرى “المعتدل يبقى معتدلًا” ولا يمكن له فهم الثورة وقوانينها وسننها. يرجع هذا الأمر للطبيعة الاستسلامية والمعتدلة عندهم، فهم أثبتوا أنّهم غير جديرين بقيادة الحروب، وغير قادرين على مواجهة الضغوط الخارجية والداخلية؛ ففي فرنسا وقعت الحرب الخارجية في 1792م وانهار الحكم الملكي بعد ذلك بمدة. واستمرت هذه الحرب حتى ربيع 1793م بهزائم متلاحقة إلى أن سقط “الجيروند المعتدلون” أكثر من غيرهم في الحرب، على يد “المنتانيارد اليعاقبة”.
وفي روسيا، التي ولدت ثورتها في ذروة الحرب، فإن هذا الأمر جعل المعتدلين الروس يواصلون الحرب ولكن عجزوا عن إدارتها فتكبدوا هزائم وخسائر متتابعة. وفي إيران، واجهت الحكومة المعتدلة المؤقتة أزمات داخلية مبرمجة من الخارج في مناطق كردستان وخوزستان وتركمن صحرا، وقد أثبتوا عدم قدرتهم على إدارة الأزمة، الأمر الذي تكرر مع تولّي بني صدر لموقع رئاسة الجمهورية المتزامن مع الهجوم العراقي الجائر على الأراضي الإيرانية. وقد منيت القوات الإيرانية بهزائم متلاحقة، ما أدى إلى عزل بني صدر والمعتدلين من مسرح السلطة، لتنعكس النتائج بعدها بانتصارات تاريخية للجيش الإيراني. علمًا أنّ في الثورات الثلاث تمكّن الراديكاليون من الوصول إلى السلطة، ولكن المفارقة كانت في نجاح هذه الفئة في المحافظة على قيمها الثورية في حكمها، وكيف ستستطيع تسييل مبادئها في قالب الدولة، ثمّ كيف ستقوم بتصدير ثورتها للخارج لتكون مشعلًا في المنطقة والعالم.
ونلحظ أنّه قبل الثورة الإسلامية في إيران كانت الثورات تأخذ منحى مخالفًا لفهمها الثوري حين تتصدّى للحكم. وهذه العلاقة بين الثورة والدولة كانت محل نقاش بين كاسترو وجيفارا على خلفية كيفية التعامل مع الثورة الكوبية التي تزعمها الاثنان معًا وهل ستأخذ منحى الحكم داخل الدولة أم لا. هذه الجدلية بُرهن على صحتها وقدرتها مع بزوغ شمس الجمهورية الإسلامية، المتمسكة بثورتها ومبادئ القيام؛ فمع هذه التجربة الجديدة في تاريخ الثورات يُعلم أنّ الممكن هو قدرة الثورة على الحكم والانتشار مع شرطٍ وثيق وهو التمسّك بالمبادئ أبدًا.
النص يعبر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة عن رأي الموقع
التعليقات مغلقة.