فراس الشوفي* – خاص الناشر |
«إن أجسامكم التي جُبلت من تربة سورية هي لسورية. وأرواحكم التي تجوهرت تحت سماء سورية هي لسورية وليست لبلادٍ أخرى تحت الشمس. أنا سوري، وأريد حقّاً سوريًّا، وحريّة سوريّة لسورية».
بهذه الكلمات البليغة، خاطب جبران خليل جبران مبكراً أبناء شعبه، مذّكرًا إياهم من أيّ ترابٍ نبتوا وأي شمسٍ لوحّت جباههم، بعدما عملت بهم الإرادات الأجنبية ودعوات التقسيم والانعزال الطائفي والمذهبي طوال القرن التاسع عشر وبداية القرن الماضي.
جبران الآتي من بشرّي، منارة جبال لبنان الغربية، لم يميّز بين دمشقي أو حلبي أو جبيلي أو بيروتي أو زحلاوي أو عكّاوي، إنّما، عبّر صاحب كتاب «النّبي»، عن حقيقة البلاد الواحدة والشعب الواحد، وعن مزاج نهضوي بدأ يتشكّل في لبنان مع بطرس البستاني وأمين الريحاني وغيرهما. ثم جاء أنطون سعاده، ليسكب الحبّ والتعلّق بالأرض في قالبه العلمي الفلسفي الأصيل ويعبّر عن وحدة الهلال الخصيب الجغرافية والتاريخية بعقيدة ونهضة واضحة المقاصد، ومنظمة عقائدية شديدة الإخلاص، هي الحزب السوري القومي الاجتماعي.
الواو كافرة بين «لبنان وسورية» في محاكاة ابن بعقلين الأديب سعيد تقي الدين. محاكاة لاذعة راقية، للحدود الوهميّة المرسومة فوق سلسلة جبال القلمون بين بيروت ودمشق، وفي قلب النهر الكبير، متعرّجة هزيلة كرعشة قلم في يد المحتل الفرنسي والبريطاني. أقلّ ما في الأمر أن يسخر كاتب فذّ مثل تقي الدّين من الحدود. من باستطاعته أن يميّز سنديانة من وادي العيون عن سنديانة في وادي أدونيس؟ ومن يفاضل بين حجر بازلت من السويداء أو من الوزاني؟ إن أكثر تيس معزى بلدي/شامي عنادًا، يعرف أن حلاوة الورق الأخضر، تتنكّه وتطيب وتتنوّع من سهول الجليل وجباله، إلى وادي التيم والشوف وجبيل، إلى مرامي الفرات، ويبقى المرعى واحدًا.
قبل وقت قصير من وفاته، كتب البريطاني روبرت فيسك مقالًا عن مشاركة مقاتلي حزب الله في الدفاع عن دمشق إلى جانب الجيش السوري. ومن جملة ما قاله فيسك، إن المقاتلين اللبنانيين، الآتين من جبل عامل وجبل لبنان والبقاع، لو كانت الحرب على دمشق قبل مئة عام، لكانوا جنودًا في الجيش السوري يقاتلون دفاعًا عن بلادهم.
وبالفعل، يمكن أن يُنظر إلى مجريات الحرب الأخيرة على سورية، بوصفها مطهرًا للأفكار والعقائد. فمن لامس تراب الشام من اللبنانيين وغيرهم من أبناء الهلال الخصيب، وسقت دماؤه ظمأ الطمأنينة والحريّة، أدرك بقلبه أنّه يدافع عن بلاده، عن نفسه، لا عن «حليف» سياسي أو انتماءٍ ديني أو مذهبي، كما يحلو للماكينة المعادية تصويره.
بعد مئة عام على الفشل المريع لسايكس ـ بيكو وهياكلها البالية المترنّحة، بما فيها الدولة اليهودية الزائلة، يشعر الوحدويون بالحرقة على الوقت الضائع، ولو أن نضالهم الطويل المرير المتجدد، لم يذهب سدىً، وانبلاج الضوء يسابق لحظات العتم السحيق.
*عميد الإعلام في الحزب السوري القومي الاجتماعي
النص يعبر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة عن رأي الموقع
التعليقات مغلقة.