يقال إن لكل مقام مقالًا، إلا أن هذا المقال لا يصل طرف المقام، فكيف بالمقام كله!
منذ بدء حركة الاستنهاض للمحرومين في فكر السيد محمد باقر الصدر وتقديم الإسلام النموذج القادر على قيادة المجتمع في زمن كانت الاشتراكية في ذروتها والرأسمالية تتغنى بحقوق الفرد، لمع الفكر عنده ليشعل ثورة على الواقع المصطنع. “وأهمّ إنجازٍ مميّز للإمام الخميني العزيز كان أنّه جعل في بادئ الأمر الإسلام ركيزة لإيران، ومن ثمّ جعل إيران في خدمة الإسلام. لقد أشعل الثورات داخل هذه الثّورة. ولهذا جعل الآلاف من المضحّين في كلّ مرحلة من أنفسهم دروعًا تحميكم وتحمي الشعب الإيرانيّ وتراب الأراضي الإيرانيّة، والإسلام، وجعلوا أعتى القوى الماديّة ترضخ ذليلة أمامهم (من وصية قاسم سليماني)
كان لا بد من حماة لهذه الثورة، والحماية عادة تقع على عاتق الأوفياء، والأوفياء جداً.
“الشهداء محور عزّتنا وكرامتنا جميعًا؛ وهذا الأمر لا ينحصر بيومنا هذا فقط، بل إنّ هؤلاء اتّصلوا منذ الأزل ببحار الله جلّ وعلا الشاسعة. فلتنظروا إليهم بأعينكم وقلوبكم وألسنتكم بإكبار وإجلال كما هم حقاً. عرّفوا أبناءكم على أسمائهم وصورهم”. والكلام للشهيد قاسم سليماني في وصيته، يركز على دور الشهداء في صناعة الأجيال من خلال وسامهم الرفيع الشهادة، والدور في رسم الصورة النهائية لأهداف النضال الثورية الأولى، فالأمر تراصف، وتسليم ومتابعة من جيل إلى جيل
وجيل قاسم سليماني يكاد ُيقسم نصفين بين رجلين أحدهما في لبنان والآخر في إيران وكلاهما تجاوز حدود الجسد الواحد والعقل الواحد والروح الواحدة ليصبحا جيشين وليس رجلين فقط.
عندما سئل الحاج سليماني عن عماد مغنية أجاب بأنه يعادل لواء كاملًا بالمعنى الحقيقي للكلمة، وشبهه بمالك الأشتر قائد جيش الإمام علي عليه السلام. ولو تسنى أن نرى مقابلة تلفزيونية للحاج عماد مغنية لسمعنا ربما ذات الوصف في حق قاسم سليماني للتشابه في شخصيتي الاثنين؛ فكلاهما قدم من الريف سواء في جنوب لبنان أو كرمان في إيران، وورثا بعض الصفات من الريف كالتواضع رغم المهام والأدوار التي ساهمت كثيراً في تغيير سياسات في المنطقة واستراتيجيات لم تقتصر على حدود الميدان فقط، اللذين كرّسا حياتهما له.
أسهم الريف أيضًا في رسم الشخصية الرقيقة المحببة رغم الصلابة؛ علاقة الشهيد سليماني بالأطفال وخصوصًا أطفال الشهداء علاقة مميزة وطيبة وغير مصطنعة، نابعة من القلب وتعبر عن الرقة في قلب الرجل الذي قلّب الميادين بخنصره. وما ينقل عن بساطة الحاج عماد وتواضعه ورأفته بالمجاهدين يعبر عن هذه الصفة التي تنمو عادةً أصفى في الجبال وبين البساتين،
ولهذه الصفة أثرها في بناء الجسر الذي عبر عليه أجيال آمنوا بما آمن به عماد، ورأوا فيه مصداقًا لـ”عباد الرحمن الذي يمشون على الأرض هونًا”. وبالمقابل فإن ذكر عماد لم يكن هينًا على أعدائه، وكان لعمله الدؤوب وذكائه الحاد وربطه الميدان بالسياسة والقدرة على التحليل وإيجاد الحلول لتطوير العمل العسكري للمقاومة، أكبر الأثر في النقلة النوعية لعمليات المقاومة والتي شكلت رافعة التحرير في العام ٢٠٠٠ ومن ثم الصمود والانتصار في حرب تموز٢٠٠٦. ولم يكن سليماني ببعيد عن صاحبه وشريكه في رسم مسار العمل التطبيقي للثورة وترجمة أهدافها في الميدان في نصرة المستضعفين في الأرض.
يقول عماد مغنية في شريط مسجل إننا الآن موجودون ولنا ما لغيرنا في الوطن، لا بل أكثر منه. نحن من قدمنا ونستحق من أرضنا أن تحضن أبناءها الأوفياء والأوفياء جدًا.
يشترك سليماني مع مغنية في كونهما صُنّفا أميركيًّا واسرائيليًّا على أنهما العدو الأكبر لهما والأخطر، ومن هنا كان قرار الاغتيال هو ختام هذا الصراع الاستخباري والأمني للحد من قدراتهما في رفد الجمهورية الإسلامية الإيرانية في حالة سليماني أو حزب الله في حالة مغنية، مع العلم أن الاغتيالات لم تحدّ يومًا من تعاظم هذه الحركة جيلًا بعد جيل. إلا أن الاغتيال نجح في استبعاد رجلين استثنائيين لا يمكن أن يتكررا في المستقبل القريب، لأنهم ينتميان إلى العبقرية بالفطرة، فمغنية وسليماني لم يدخلا أكاديمية عسكرية أو أمنية أو سياسية لتلقي العلوم أو الاستفادة من التجارب السابقة في العمل الميداني، بل على العكس الميدان والحروب كانت مدرستهما ومنها نهلا الدروس وتراكم الخبرات. والعقيدة الراسخة والايمان كانا نظريتهما في خط الخطط العسكرية وبمدد الهي وتجارة رابحة. هذا ما لا تفهمه دوائر القرار الاستخباراتية العالمية التي لاحقت مغنية واعتبرته ساحرًا في التخفي وعبقريًّاً في الميدان ليصبح اسمه أقرب للشبح المرعب في أي أرض أقلته أو ميدان خبره.
لا مجال للمبالغة هنا، ومن يرد التمعن أكثر فليقرأ عشرات المقالات التي تتحدث بالتفصيل عن هذا الأمر وأغلبها صحف عالمية وليست عربية قبل أن يتسنى للجميع سماع اسمه لأول مرة حين إذاعة خبر استشهاده الذي طال انتظاره من قبل أعدائه.
أما سليماني فشاءت الأقدار أن نراه بكوفيته يتجول في الميدان على أرض العراق أمام زحف داعش ليكون مصدر أمان لمن خلفه بمجرد أن يعرف أنه متواجد هناك. كان لتواجده الأثر الأكبر في دعم معنويات المتطوعين للدفاع عن أرضهم ضمن ما عرف فيما بعد بالحشد الشعبي وبدعم من المرجعية العراقية. إيراني على الأرض العراقية يدافع عنها؟! لو قيل هذا الأمر قبل عشرين عامًا او أكثر لكان أمرًا مستهجنًا في ظل حرب الثمانية أعوام بين إيران والعراق، لكن هذا ما يميز الحاج قاسم وما يميز الثورة في إيران عن نظيراتها في العالم، وهو ما أعلنه الإمام الخميني منذ ولادتها، هي ثورة المستضعفين في الأرض وليست ثورة الشعب الايراني فقط.
هذا ما آمن به سليماني، وما آمن به عماد، لا حدود للعمل، لا مكان واحد للنهوض، لا جغرافيا تمنع تبادل الخبرات بين المستضعفين والمقاتلين والمناضلين بحق بين لبنان وايران والعراق وفلسطين وسوريا واليمن وأفغانستان وباكستان وما لا نعلم عنه من بقاع زارها الثنائي الجهادي في خدمة المبادئ التي حملاها بصدق وبصفاء وروح تنبض عند ذكر كل مظلوم او استغاثة ملهوف. عماد قدم ما كان ينبغي له أن يقدم، كرّس حياته لتكون المقاومة رقمًا صعبًا في المعادلة الإقليمية وكابوسًا مرعبًا للعدو الاسرائيلي ومن معه. لا يمكن لشخص بهذا العمر الجهادي الذي تجاوز الأربعين بقليل أن يقدم أكثر من هذا لذا كانت الشهادة بعد أن أدى الأمانة وسلم الإنجاز لشريكه في النضال والقائد السيد حسن نصر الله، الذي آنسه وجود سليماني بعد غياب صديقه ورفيق دربه عماد. لكن سليماني كان يعيش الأسى في نفسه وهو بعيد عن رفاقه الذين سبقوه في العروج إلى السماء. ما زالت الأرض تحتاج قدميك يا قاسم في سوريا والعراق وفلسطين وعندما تختتم أعمالك وتنجز المهمة تفتح لك السماء أبوابها لموعد اللقاء مع عماد ورفاقكما.
بالفعل أنجز سليماني مهمته بدقة عالية وربط الحلقات بعناية ودراية وأودع أمانته في صدور رجاله وكان له ما استحق بجدارة، شهادةٌ قل نظيرها بلسان السيد عباس وبخاتم سلم لمن تبعه في استكمال دورٍ آخر مع رجال آخرين.
النص يعبر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة عن رأي الموقع
التعليقات مغلقة.