تمرر الإمارات رسائل جديدة تجاه لبنان، مستغلة بوابة الطفولة، في مساعٍ لإنتاج أجيال يريد محمد بن زايد أن يعلبها بكل ما يكنُّه من كراهية لشعوب هذه المنطقة.
بالأمس تداولت حسابات لبنانية على “تويتر” صورًا من الكتاب القصصي المُصوّر المخصص للأطفال “Dubai Talking Towers” (من إعداد البريطاني رالف بروننغ). الكتاب يهدف لتعريف الأطفال بمحطات بارزة في التاريخ المعاصر لمدينة دبي. الصورة الأولى حملت اسم “قوة الانقسام: لبنان، 1970” تُظهر الطبيعة الخلابة لبلد يتعارك أطفاله فيما بينهم، ورسم آخر ملحق به في الأسفل عن لبنان اليوم: بلد منكوب ومدمر بفعل الحروب تطمر مياه أنهاره النفايات. بالمقابل رسم آخر مُعنوَن بـ: “قوة الرؤية: دبي، 1970”: صحراء جرداء وفيها أطفال مسالمون يلعبون بمرح، وفي أسفلها المدينة نفسها اليوم بطفرة عمرانية ويحضر فيها برج خليفة. هي قصص التاريخ والحاضر كما تكتبها السياسة الإماراتية. واللافت أن التاريخ لا يعرف أحداثًا قبل العام المذكور. الحياة بالنسبة لحكام الإمارات تبدأ من هنا، وكأن من سواهم لا تاريخ له، ولهذا أسبابه التي سنطل عليها.
هكذا كانت تحكي الإمارات قصتها للأطفال، بالرسومات النافرة تعرف الطفل الإماراتي على أترابه اللبنانيين، ماسحة صورًا مشرقة عن البلد الذي أحبه الكل وأنهكه الكل، البلد الذي دُمّر بفعل معارك بعض الخليجيين -ومن يؤمّن لمشيخاتهم الحماية- على أراضيه. كان بإمكان الرسم أن يضيء على مال البترودولار مثلًا الذي أغدق على المليشيات التي دمرت لبنان لتقاتل كل نفَس وطني فيه، وكل كرامة عربية. كان بإمكانها أن تضم جثث شهداء مجازر تل الزعتر وصبرا وشاتيلا وقانا التي كُوِّمت بمال الخليج وقذائف صواريخ “إسرائيل” التي يقدمها الإماراتيون للعالم اليوم على أنها “بلاد المعرفة والتعايش” (العنوان الذي اختير في اكسبو2020). كان بإمكان الصور النافرة أن لا تكتفي بنقل الدمار بل بالإشارة للوحش، لكنها السياسة الإماراتية وحضن ابن زايد الذي لا دفء فيه!
لم يعد في جعبة الإمارات ما تقدمه عن لبنان إلا الدمار والنفايات! إذ لا تاريخ تعرفه للبشر قبل العام 1970. لا الأسماء اللبنانية التي حفرت في مجال الأدب، ولا الكفاءات التي أسهمت في رفع الأداء المهني إعلاميًّا وسياسيًّا وصورًا مضيئة تُروى. والأمر “قد” لا يرتبط بالحقد فقط، بل ربما أن ثمة ما يُعيب في التاريخ المدوّن لمشيخات عاشت التناحر والانقسام. تذكر الوثائق التاريخية التابعة للأرشيف البريطاني كيف مكنّ البريطانيون مشايخ القبائل المتناحرة من الوصول إلى صيغة حكم، أفرزت الإمارات.
“ساحل القراصنة” هو الاسم التي عُرفت به المنطقة في القرن الثامن عشر. قبائل تنفذ الإغارات البحرية وعمليات السرقة والابتزاز وفق الوصف البريطاني. هذه صور التاريخ المدونة. وبعد سنوات من المعاناة أبرم البريطانيون معاهدات مع القبائل اعترفوا فيها بالأُسر الحاكمة وعرضوا عليهم الحماية في مقابل عمل هدنة بحرية، وحظر إبرام اتفاقيات مع سلطات أخرى، وبموجب الحماية البريطانية لحكم المشيخات، ضمن البريطانيون كف يد القراصنة!
وللوثائق تفصيلاتها التي توضح لمن يطرح استفهامات عن جرأة هذه الأنظمة على التفريط بفلسطين والمبالغة بإظهار الود للاحتلال، على قاعدة “من يهن يسهل الهوان عليه”، إذ تنقل أنه عندما أعلنت بريطانيا نيتها الانسحاب من الخليج في العام ١٩٦٨، على خلفية الضغوط الاقتصادية، أُصيب “حُكام الخليج بقلق تجاه هذا الأمر وعرضوا على بريطانيا سداد تكاليف استمرار تواجدها في الخليج. بالرغم من ذلك انسحبت بريطانيا”، وكان تأسيس الإمارات في ٢٣ كانون الأول/ديسمبر ١٩٧١ بقيادة الشيخ زايد آل نهيان.
هذا في التاريخ، إلا أن ثمة حاضرًا أيضًا تغفله الأقلام التي توظف إماراتيًا. يعايرنا المتحدثون بلسان ابن زايد بنفايات بلادنا، فهل دققوا يومًا في كم النفايات التي تستوعبها الإمارات:
١. الانحلال الأخلاقي: إذ تتصدر دبي قائمة الدول التي تعتاش من “السياحة الجنسية”.
- غسل الأموال: إذ تصف وكالة رويترز الإمارات بأنها بؤرة لأعمال مالية غير قانونية في ظل معدلات قياسية من جرائم غسل الأموال وتمويل الإرهاب فيها. وفي بداية العام الجاري تلقت الإمارات تحذيرات بأن هناك خطرًا متزايدًا “بإدراجها في قائمة مجموعة العمل المالي الدولية للبلدان التي تخضع لمزيد من الرقابة بسبب أوجه القصور في مكافحة تبييض الأموال وتمويل الإرهاب”، وفق بلومبيرغ. وهو ما يفسر الأخبار التي تعمم يوميًا على وسائل إعلام محلية عن “نجاحات” بجهود مكافحة عمليات غسل الأموال القذرة.
- العنصرية: وهو العنوان الأبرز الذي تنشط جمعيات حقوقية في ملاحقته في الإمارات، وهي عنصرية على الوافدين من الآسيويين والأوروبيين الشرقيين والأفارقة والعرب من غير الخليجيين. والعنصرية لا تقتصر على تعديات لفظية أو تعاطٍ يحط بالكرامة، إذ تشير تقارير حقوقية عدة إلى عمليات الترحيل القسري، أو السجن والتعذيب وعمليات اعتداءات يتعرض لها الوافدون.
- بلاك ووتر: هناك تقارير تفضح علاقة محمد بن زايد المباشرة بمؤسس “بلاك ووتر” إريك برنس الشركة الأمنية سيئة السمعة. وفي تقرير لـ “الجزيرة” عام 2017، اهتمت من خلاله بفضح تفاصيل لقاءات بين الرجلين، أشارت كيف وظف ابن زايد الشركة لاستجلاب مسلحين ونشرهم كقوات برية مقاتلة في سوريا وليبيا واليمن، وعن دور برنس في تشكيل “مجموعة الدعم الأمني” كقوات أميرية لإخماد أي اضطرابات قد تنشأ في الداخل.
- شراء الذمم الإعلامية: ولا يطول الشرح هنا، تكفي إطلالة عابرة على مضامين ما يقدم من مادة إعلامية على شاشات لبنانية، توصف بالطحنونية، نسبة لطحنون بن زايد، وهي تتلقى التمويل المباشر من الامارات، وبقياس أدبيات خطابها الاعلامي مع الإعلام الرسمي الاماراتي تتضح الصورة، وهي سياسة مورست في مصر، وتضرب اليوم السلم الأهلي العراقي، كما أنها تحضر في الساحات المغربية من ليبيا وتونس وغيرهما.
“الحضن العربي”
في أحد منشورات “البيان الإماراتية” (6 آب/أغسطس 2020) التي أريد لها أن تخرج بالصورة التضامنية مع لبنان، عقب انفجار المرفأ، جاء: “إن لبنان بلد عربي ولن يعيش إلا بظل الحضن العربي”، وإن أسرع طريق لخروج اللبنانيين من أزمتهم الاقتصادية الراهنة يكمن في العمل “على رد «حزب الله» إلى حجمه الحقيقي”. بهذه الوقاحة كان الإماراتيون يملون على اللبنانيين التوجيهات التي كانت تتردد في تغطيات قنوات محلية ممولة اماراتيًا، في قفز عن خيارات سياسية أفرزتها صناديق الاقتراع، التي لم تعرفها بلاد أطول برج في الشرق الأوسط. ولعل من في الإمارات تناسى، وبفعل مسحوقي الكرامة من بلادنا، أن بعض الجدران في بيروت والقدس، عمرها أكبر من عمر الإمارات ومشايخها، وأن الشعارات السياسية المدونة على جدرانها تعبر عن الزخم السياسي الذي احتضنته بلادنا، والذي تعجز عن تحمله الدولة التي تسجن مواطنيها بسبب تغريدة، وتلاحق أصوات المعارضين في الخارج لكتمها. فعن أي حضن إماراتي يتحدثون؟! أما العروبة فمن العار أن يُنسب عربان التطبيع السافر إليها. فما الذي تبقى للإمارات المنغمسة بلا خجل في عملية محو المعالم العربية من فلسطين بتمويلها سياسات التهويد، والمنخرطة علنًا في تزوير التاريخ، لإحلال كيان جُمع من الشتات ليُمنح أرضنا بعد أن أهدر دماءنا؟ وأي عروبة تلك التي تقذف الفلسطيني حاضرًا ومستقبلًا، وتفتح أرضها لتصفية قادة له، وتمارس عمليات التضييق عليه اقتصاديًا وإذلاله اجتماعيًا؟ عن أي عروبة يحدثنا الطارئون على العروبة في لبنان؟!
العداء للشعوب
“لماذا تنفق الإمارات ميزانيات ضخمة لحرب الإسلاميين؟”. في العام 2017، طرحت “الجزيرة” القطرية العنوان في أحد تقاريرها، لتلاحق من خلاله جذور العداء الذي يكنه محمد بن زايد لتنظيم الإخوان المسلمين، ناقلة عن لسان السفير البريطاني السابق في الإمارات السير جون جينكز قوله: “إن ولي العهد الإماراتي محمد بن زايد قد يكون أكثر من يكره الإخوان المسلمين في العالم”. تقارير لاحقة بدأت تخرج للعلن تربط اسم الإمارات بخطاب معاداة الإسلام ككل من خلال دعم كتاب ومراكز أبحاث في المملكة المتحدة وعموم أوروبا، كانت الإمارات تقف على سلم الريادة في عمليات تشويه صورة وسُمعة حوالي 1.3 مليار مسلم حول العالم، وترتد تبعاتها المباشرة على حياة ومستقبل نحو 53 مليون مسلم يتوزعون على الدول الأوروبية. لماذا أذكر ذلك؟ ببساطة للقول إن الحقد الذي يكنّه حكام الإمارات لا يقتصر علينا، بل يطال كل شعوب المنطقة بعربها ومسلميها، إلا المستجلبين لاستيطانها بفعل القوة.
وللإمارات عناوين تبرر فيها كل كراهية تقابل بها الآخر، في الداخل، أو في “الخليج الواحد”، وما بعده. للعنصرية تجاه العمالة الوافدة مبرراتها التي لا تقنع إلا الأقلام المدفوعة الأجر إماراتيًا. حتى حمام الدماء المسفوك في اليمن له خلفية لا تنفك الإمارات عن ترديدها، تكمن في محاربة نفوذ إيران، هذا ما يقتنع به ضاحي وعبد الخالق على الأقل! وللأمانة إيران التي يواجهونها في اليمن، هي نفسها التي يصافحها عيال زايد أمام الشاشات ولا تهدأ خطوط اتصالهم بها خلف الكواليس رغم قلقهم منها، إلا أنهم قرروا أن يحاربوها بأجساد الأطفال في أسواقهم وساحاتهم وبيوتهم التي كان من المفترض أن تكون آمنة. حتى الأزمة مع قطر التي فرزت أبناء العوائل الواحدة، طالت تداعياتها الآخرين، فسألت صحيفة القدس العربي في افتتاحية في ٦ تموز/يوليو: “لماذا تبغض الإمارات شعوب المغرب العربي؟”، مشيرة إلى الأزمة مع المغرب على خلفية عدم انخراطه ضد قطر، وإلى الدور الذي تنخرط فيه الإمارات في كل من ليبيا وتونس والمغرب والجزائر، لتكون دائمًا في المقلب المجابه للمزاج الشعبي.
حكت الإمارات قصتها، وكان لزامًا أن نروي قصتنا أيضًا، لا لنقدم أنفسنا لأطفال الإمارات، بل لنقدم المحجوب من قصص مشيخاتهم، قراصنة الماضي، خونة الحاضر.
النص يعبر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة عن رأي الموقع
التعليقات مغلقة.