إعلام المقاومة بعيدًا عن الفعل وردّ الفعل: قرار سياسي ومنهجية متّبعة

احصل على تحديثات في الوقت الفعلي مباشرة على جهازك ، اشترك الآن.

محمد عفيف* – خاص الناشر |

قد يعيب البعض على إعلام المقاومة قصوره في مواضِع وتقصيره في أخرى، ويحيلون إليه كثيرًا ‏من الأسئلة أو يشكّكون في تفاصيل مختلفة لا يمكن الإجابة عنها في إطار قراءة مختصرة. لكنّ الجواب الشافي يكمن ليس في عدم التقدير الكافي لأهل المقاومة وأنصارها لإعلامها ‏بل في فهم المعاني العميقة لقيام الولايات المتحدة والسعودية بحجب تلفزيون المنار وإذاعة النور ‏عن الأقمار الصناعية ومنع وصول البثّ إلى الدول العربية والأوروبية والأميركية، وفي حجب عدد من ‏المؤسسات اللبنانية والعربية العاملة في إطار اتحاد إذاعات الدول الإسلامية ومؤسسات متعددة عاملة في ‏إطار محور المقاومة عن شبكة الإنترنت، ما دفع العاملين في هذا القطاع إلى البحث عن البدائل وإطلاق ‏معركة أدمغة لا تزال مستمرّة.‏

لا شكّ أن إعلام المقاومة يواجه صعوبات ومعضلات واقعية بسبب مجموعة من الضَّوابط والقيم الأخلاقية ‏والإنسانية والدّينية والسّياسية التي لا تعترض، عادة، الإعلام المعارِض للمقاومة. اللبنانيون يختلفون حول أمور كثيرة: اتفاق الطائف، الحرب السُّورية، المقاومة ودورها الإقليمي الواسع الذي يحظى بأكبر قدر من النقاش والمواجهة، إلى قضايا أخرى، رئيسية أو هامشية، تُطاول مختلف مناحي الحياة. وهذا الاختلاف طبيعي ومفهوم ومقبول، ‏إلا متى تحوّل إلى عداء أو افتعال عداء بين اللبنانيين، بذرائع شتّى وتوصيفات يتم إسقاطها ‏من أعلى.‏

لم تتعامل المقاومة يومًا مع خصومها السّياسيين ووسائل الإعلام المعادية لها والجهات المعارضة ‏لخياراتها إلا بوصف هؤلاء أخصامًا أو منافسين أو معارضين، ولم تصنّفهم في خانة العدوّ ‏‏(كما يفعلون)، بل بوصفهم لبنانيين يختلفون معها في السياسة وفي الرؤى والأفكار حول طريقة إدارة البلد. والمقاومة لا تسمح لنفسها، بتاتًا، ‏بالتشكيك في لبنانية خصومها، بمن فيهم من تعاملوا – فعليًا – مع العدوّ في فترات سابقة، وليس في أدبياتها توصيفات لهؤلاء إلا كـ«طرف آخر» أو «خصم».
وغالبًا ما يؤخذ على إعلام المقاومة أنّه إعلام ردّ فعل وليس إعلام فعل، وهذه كانت موضع نقاش ‏داخل بيئة إعلام المقاومة، ومع كثير من الأصدقاء والمعلّقين والإعلاميين الذين يحبّذون سياسة إعلامية هجومية فاعلة بدل الردّ على الحملات الإعلامية العنيفة على المقاومة وبيئتها ‏الاجتماعية والسياسية‎.‎

‎ ‎لكن إعلام المقاومة هو ابن بيئتها وثقافتها الإيمانية ‏والأخلاقية ومدرستها الثقافية. وهو، بكل بساطة، يتلقّى تعليمات من القيادة تقضي بعدم الانجرار إلى الفتنة ‏المذهبية، وبالتأنّي في الرد، مضمونًا وشكلًا ولغةً، على الانتقادات الظالمة والحملات والافتراءات، سواء من حلفاء أو من ‏خصوم، وتجنّب أي بعد طائفي ومراعاة ‏الحساسيات المذهبية واللياقات الأخلاقية والحفاظ على الصدقية والمهنية والاستناد إلى الدليل والسند.

لذا، لا يتعلق الأمر – كما يرى أصدقاء أو ‏خصوم – بفعلٍ أو ردّ فعل، وبهجوم أو دفاع، بل هو قرار سياسي ومنهجية متّبعة تعتمد الحكمة والصبر والهدوء. وبالتالي، فإنّ وسم‏ إعلام المقاومة بالبطء نوعًا ما لا يلغي توازنه. فهو أن هاجم، ترك مساحة للتراجع والعودة إلى الحوار ‏وحرص على عدم قطع الجسور وحرق المراكب، وإن دافعَ حَرَص على عدم كيل الاتهامات والاكتفاء قدر ‏المستطاع بتبيان الحقيقة وإظهار الباطل والحفاظ على المصداقية وإبقاء قاعدة الأولويات ثابتة ‏وعلى رأسها الوحدة الوطنية ونبذ الفرقة والشقاق، إذ إن تعميق الحوار وإضفاء الطابع الإنساني والأخلاقي على إعلامنا، ولو أدّيا إلى خسارات في جوانب معينة، أسلم من الانزلاق إلى آليات الاستخدام الإعلامي السهلة ‏كالإثارة وتوجيه الاتهامات بلا دليل واستعارة مفردات سوقية باتت شائعة الاستعمال في مجتمع الإعلام اللبناني ‏والصحافة اللبنانية اليوم، مع الأسف، ولو أعطتنا بعض المكاسب التكتيكية.

في إطار الانقسام السياسي الذي يضرب البلاد، ولا سيما بعد عام 2005، انقسم اللبنانيون ومعهم إعلامهم إلى فريقين كبيرين، لكلّ منهما مشروعه وأدواته وحلفاؤه محليًا وإقليميًا. ‏لكن، في السنوات الأخيرة، بدا واضحًا أن الأمر لم يعد كذلك مع تبدّل صورة المشهد الإقليمي على ‏منتصِر كبير هو محور المقاومة، ما أعطى بطبيعة الحال زخمًا كبيرًا وقوة إضافية لإعلامه وجمهوره وأدواته الثقافية والفكرية. رغم ذلك، لم ينزلق هذا الفريق إلى أي فعل عدواني إعلامي. وفي ‏مقابله، ينتظم مَن يمكن تسميته «حلف ضدّ المقاومة»، ويضمّ أحزابًا ومؤسسات وإعلاميين تجمّعوا في إطار فريق عمل واحد رغم الخلافات السياسية الواضحة بينهم، لمواجهة المقاومة وبثّ روح العداء لها وإثارة الشائعات وتشويه صورتها وقادتها ورموزها. وهذا الفريق يعمل بشكل واضح وغير مستتر تحت إدارة السفارة الأميركية ‏في بيروت وعدد من مراكز الأبحاث والدراسات في دولة الإمارات العربية المتحدة. وهي مراكز في غالبيتها شركات إسرائيلية وأميركية (في الباطن). ولكن، والحق ‏يُقال، فإنّ هذا الفريق يعمل بطريقة أكثر فعّالية وكفاءة على المستوى الإعلامي من ‏الفريق الحليف للمقاومة بالمجمل، لأسباب سياسية وبسيكولوجية ومصالح صغيرة وآنية ضيّقة لا مجال لذكرها هنا.‏

إلا أنه رغم الظروف الصعبة التي ‏واجهتها المقاومة منذ انطلاقتها عام 1982، والاستهداف السّياسي والطائفي الذي طاوَلها والحملات ‏الإعلامية المركّزة التي تعرّضت لها، نجح الإعلام المقاوم – ولعلّها أبرز نجاحاته ‏التاريخية بل إنه يرتبط بها وباسمها ولولاها ما كان أن يكون – في تثبيت المقاومة قضيّة مركزية في وجدان اللبنانيين والعرب، وفي بناء شعبية كبيرة لها في محيطها الاجتماعي، وفي تحالفات راسخة على ‏امتداد العالم العربي والعالمي، مستفيدًا بالطبع من نجاحاتها العسكرية ومن شهدائها وتضحياتها وانتصاراتها الباهرة على أكثر من صعيد… من بداية صعبة لهذا الإعلام، انطلاقًا من تجارب شعبية بسيطة وصولًا إلى مؤسّسات كبيرة تشقّ الفضاء وحضور هائل على وسائل ‏التواصل الاجتماعي وأنصار ومريدين في كل مكان، وهذا ما لم يستطِع الإعلام المعارض للمقاومة إنكاره، ‏فلجأ إلى وسائل تشويه مختلفة عبر ربط المقاومة بالإرهاب أو بالمخدّرات، واتهامها بالطائفية وبزعزعة الاستقرار الإقليمي والتدخل في ‏شؤون دول أخرى. لكنّ هذا لم يُفلح في حجب الحقيقة عنها ولم ينطل على كلّ الجماهير، لأنّ إعلام المقاومة تمكّن من نقلها من إطارها المحلي ومن كونها حركة مقاومة للاحتلال “الإسرائيلي” للبنان إلى مقاومة مشروع الهيمنة الأميركية ‏في المنطقة.‏

لقد نجح الإعلام المقاوم – كمثال آخر – في بناء قضية رابحة أخرى هي قضية اليمن وشعبه المظلوم. ‏أُريدَ لهذه الحرب أن تكون حربًا صامتة يُقتل فيها مئات الآلاف ويتعرّض شعب بأكمله لحصار قاسٍ واجتياح أرض وتدمير مدن، في ظل حصار إعلامي خانق وسيطرة كاملة ‏على المشهد الإعلامي لأدوات العدوان الأميركي السعودي. لكن، منذ الخطاب الأول لسماحة الأمين العام ‏لحزب الله الذي ألقى حجرًا كبيرًا في المياه الإعلامية الآسنة والراكدة، تحرّكت ماكينة إعلام المقاومة بقوة، ‏ونجحت في بناء قضية تحوّلت إلى قضية إنسانية عالمية ساهمت في الإضاءة على انتصارات الشعب اليمني وعلى الحصار الظالم الذي يُطبق عليه، وإلا لكنّا أمام واحدة من أكبر ‏المآسي المروّعة في التاريخ الحديث، مأساة صامتة لم يكن ليعرف بها أحد لولا إعلام المقاومة ومحورها. ‏وتكمن أهمية هذا النجاح في أنّه واجه آلة إعلامية إمبراطورية وأدوات تأثير هائلة على الرأي العام العربي ‏والدولي وإمكانات مالية ضخمة، كل ذلك بإرادة قوية وإمكانات محدودة، ولكن بمعرفة كافية بأسباب النجاح ‏وأدواته.‏

*مسؤول وحدة العلاقات الإعلامية في حزب الله
بتصرّف – جزء من محاضرة حول إعلام المقاومة

النص يعبر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة عن رأي الموقع
اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على ذلك ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. قبول قراءة المزيد