شهدت كازاخستان مظاهرات عنيفة، سقط فيها العشرات، وظل هذا البلد النفطي الواقع في آسيا الوسطى بعيدًا عن الأضواء إلى حد ما، لكن التطورات الاخيرة أعادت البلاد إلى الساحة الدولية بعد دخول قوات منظمة الأمن الجماعي، وظهرت التدخلات الخارجية والمصالح الدولية. وقد برز اسمها عربيًّا خاصة عند احتضانها في مدينة أستانا، العاصمة التي تحول اسمها إلى نور سلطان، مفاوضات السلام السورية في يناير/كانون الثاني 2017.
حصلت كازخستان على استقلالها بعد انهيار الاتحاد السوفياتي في 1991، وكان نور سلطان نزارباييف البالغ من العمر 81 عامًا، أول رئيس للجمهورية، وحكم البلاد بقبضة من حديد حتى 2019، ليسلم مقاليد السلطة إلى خلفه قاسم جومارت توكاييف بعد انتخابات مشكوك في نزاهتها. والمراقبون يجمعون على أن الرئيس السابق نزارباييف لا يزال يدير دفة الحكم من الخلف، ووظف الثروة النفطية الهائلة لبناء عاصمة جديدة، أستانا، بدل ألماتي، أكبر مدن البلاد، وأطلق عليها لاحقًا اسم نور سلطان تكريمًا له.
لم تتأخر روسيا في الاستجابة لطلب رئيس كازاخستان توفير الدعم الأمني لقواته، في محاولة لاحتواء الأزمة، في إطار منظمة “الأمن الجماعي” الإقليمية، وأرسلت عددًا من أفراد قواتها إلى البلد الجار، علمًا أن موسكو تتعامل بحساسية كبيرة تجاه الأحداث في الدول الجارة التي كان يجمعها معها لواء المطرقة والمنجل سنوات الاتحاد السوفياتي.
أشارت الباحثة في شؤون بلدان الاتحاد السوفياتي السابق في معهد العلاقات الدولية في موسكو يوليا نيكيتينا الى أن ما يجري في كازاخستان هو بمثابة صراع محلي قد لا يتجاوز حدود المدن التي حصلت فيها الاضطرابات، وهذا ما حصل في جمهوريات أخرى من بلدان الاتحاد السوفياتي السابق. وأضافت أن الاستقرار لا يزال مسيطرًا في باقي المدن ما يدل على أن الأحداث محصورة في مناطق معينة. وتابعت: لدينا مثال ما حصل في أوزبكستان في العام 2005 حيث جرت الاضطرابات عينها لكن السلطات تمكنت من السيطرة على الموقف وأعادت الحياة إلى نصابها مع بعض الاختلافات. لقد تمكنت قوات معاهدة الأمن الجماعي التي تدخلت بطلب من السلطات المركزية من الانتشار في الأماكن الحساسة في البلاد وحماية الحدود من أي تدخلات خارجية بصرف النظر عن التدخل في الأحداث الداخلية التي ليست من مهامها، بل من مهام السلطات المحلية المركزية.
بدوره اعتبر الباحث في شؤون بلدان رابطة الدول المستقلة ايفان سكوريكوفا أن تدخل قوات من منظمة الأمن الجماعي كان محقًّا وصحيحًا في الوقت المناسب، وأشار الى أن ما حصل في ناغورني كاراباخ لم يكن ليحصل لو تدخلت قوات الأمن الجماعي على اعتبار أن السلطات الأرمنية لم تطلب المساعدة وحصل ما حصل، وأصبح مطلوبًا من هذه القوات في كازاخستان أن تعيد النظام والهدوء الى المناطق التي حصلت فيها الاضطرابات، وهذا ناقوس يدق أمام دول منظمة الأمن الجماعي التي بات عليها أن تؤسس اتحادًا سياسيًّا عسكريًّا لمواجة التطورات في بلدانها وتقديم المساعدة في الحظة المناسبة والعمل على تأسيس ميثاق فعال وجدّي فيما بينها في ظل التطورات الجيو-استراتيجية، وهذه فرصة أمام قادة دول المنظمة لمواجهة الظروف الحالية.
يشير بعض المحللين الى ما حصل في أوكرانيا والى ما سمّي آنذاك “الميدان” في معظم مناطق أوكرانيا وتمكن الفاشيون من السيطرة على الحكم وحدث الانقلاب المعروف وسقط العشرات من الأرواح بفعل التدخلات الخارجية وبخاصة الأميركية في الشأن الداخلي الأوكراني من أجل إحراج روسيا. وهنا يتخوف البعض من إعادة هذا السيناريو في كازاخستان على اعتبار أنها متعددة الاثنيات، وهنا الطامة الكبرى إذا ما تطورت الأحداث بشكل كبير، كيف سيكون عليه موقف روسيا تحديدًا إذا ما حصلت عمليات تهجير للروس القاطنين في البلاد من الحقبة السوفياتية أو ما قبلها.
لقد أثار وصول مظليين روس في إطار قوة الرد السريع التابعة لمنظمة معاهدة الأمن الجماعي إلى كازاخستان مخاوف غربية اقترنت بحالة ترقب أعلن عنها مسؤولون في الولايات المتحدة والحلف الأطلسي.
وعزز إطلاق موسكو آلية نشطة لتعزيز حضورها العسكري الواسع في كازاخستان على خلفية الأزمة التي تفاقمت في هذا البلد، تكهنات غربية بأن موسكو سارعت إلى استغلال الأحداث الدامية من أجل توسيع حضورها العسكري المباشر في البلد الحليف الذي يحظى بأهمية خاصة في آسيا الوسطى.
وفي هذا السياق، استبعد النائب الأول لرئيس لجنة مجلس الدوما لشؤون رابطة الدول المستقلة قسطنطين زاتولين أن تشهد كازاخستان تكرارًا لسيناريو “الميدان” في أوكرانيا، لأن الحكومة في نور سلطان أكثر صرامة مما هي عليه في كييف.
ويرى الكاتب السياسي مكسيم أرتيونوف أنه من البديهي أن تراقب موسكو عن كثب تطورات الأوضاع في كازاخستان، فالدروس المستفادة من التجربة الأوكرانية ما زالت حاضرة للغاية في الذاكرة ومؤلمة كما هو الحال كذلك مع العبر من أحداث بيلاروسيا قبل أشهر قليلة. ويعتبر أن أي عدم استقرار سياسي داخلي في دولة مجاورة مثل كازاخستان -التي ترتبط مع روسيا بأطول حدود بين جميع جيرانها، والتي تقع على أراضيها محطة بايكونور الفضائية الواقعة تحت الإدارة الروسية- يمكن أن يؤثر بشكل خطير على مصالح موسكو.
وللتذكير، تتمتّع كازاخستان بموقعٍ استراتيجي مميز وسط آسيا، وهي تقع بين روسيا والصين، وتعدّ واحدة من المناطق الأكثر أهمية على رقعة الصراع الجيوسياسي المشتعل بين روسيا والولايات المتحدة الأميركية، كما أنّ اقتصادها يعدّ أكبر اقتصاد في آسيا الوسطى، وشهدت في الماضي نموًّا كبيرًا، لكنها تضررت في العام 2014 جراء هبوط أسعار النفط الذي تعتمد عليه كثيرًا.
لا شك أن روسيا فاعل رئيسي في أزمة كازاخستان الحالية؛ ففي الوقت الذي تدعو فيه التصريحات العلنية المتظاهرين والسلطات إلى الحوار من أجل التوصل إلى تسوية سلمية ضمن الأطر السياسية القائمة، من المستبعد أن يقبل الرئيس فلاديمير بوتين بإسقاط النظام في الدولة الكبيرة المجاورة لروسيا لأسباب اقتصادية وسياسية داخلية روسية أيضًا.
من الواضح أن ما حصل في كازاخستان قد أثار قلقًا روسيًّا خصوصًا على خلفية الوضع في أوكرانيا وبيلاروسيا، لأن إطاحة السلطات في نور سلطان سوف يعني مباشرة إضعاف النفوذ الروسي، ليس في كازاخستان وحدها بل تدريجيًّا في كل منطقة آسيا الوسطى.
على الرغم من أنَّ لكازاخستان علاقات وثيقة مع موسكو، فإن الحكومات الكازاخستانية المتتالية حافظت كذلك على روابط وثيقة مع الولايات المتحدة، إذ يُنظر إلى الاستثمار النفطي الأميركي على أنه ثقل موازٍ للنفوذ الروسي، كما إنّ الانتقادات الموجهة إلى كازاخستان من قبل واشنطن أقل بكثير من الانتقادات لروسيا وبيلاروسيا. وفق ما ذكرت صحيفة “نيويورك تايمز” الأميركية
يعتقد الخبير في شؤون رابطة الدول المستقلة فلاديمير ليبيخين أن السلطات في كازاخستان لن تسمح بـ”ثورة ملونة” أيًّا يكن الثمن، ولكن سيتعين عليها الآن الأخذ بعين الاعتبار موقف الدوائر الليبرالية وذات التوجه الغربي، والقوى القومية في البلاد.
يمكن القول إن هذه الجولة من الأزمة قد انتهت الى حد ما. لم تنجح الولايات المتحدة الأميركية في الحصول على هدية قبيل مفاوضاتها مع روسيا، وتجنبت روسيا ظهور بقعة ساخنة أخرى على حدودها، وأظهرت للغرب استعدادها للتعامل معها، والفائز الرئيسي، بلا شك، هو الرئيس قاسم جومارت توكاييف.
ان ما يحصل في كازخستان بالرغم من المطالب المحقة على الصعيد الاقتصادي ليس مهمًّا بقدر النتائج المترتبة على تدهور الأوضاع من تفجر الصراعات العرقية والقبلية ما يسمح بتدخلات خارجية وانتشار لظاهرة الارهابيين الذين ينتظرون الفرصة السانحة لإيجاد موطئ قدم في البلاد بعد ما حصل في أفغانستان، وحيث لروسيا أطول حدود مع هذه الجمهورية ما يجعل روسيا تتخوف من محاولة قيام جمهورية إسلامية على غرار أفغانستان وستكون أمام محور جديد بعد أوكرانيا وجورجيا ودول البلطيق.
النص يعبر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة عن رأي الموقع
التعليقات مغلقة.