بلغ الهوس العربي بظاهرة التنجيم واكتشاف ما تخبئه الأبراج الفلكية لحياة الناس، مراحل متقدمة من اهتمامات الأمة، فهذه الطقوس التي رافقت حياة المرء منذ القدم، وقبل ظهور ثورة الاتصالات والمعلومات، كانت ولا زالت تعتبر عادات مقدسة لدى الكثيرين، لا تقل أهمية عن أي من القضايا الأخرى التي تشغل حياتهم، بل ربما تكاد تكون أحيانًا الأكثر أهمية من بينها، بصفتها المتنبّئ الأول بمستقبل حياتهم ومسار أيامهم.
التنجيم بين العلم والسحر.. لا تخلطوا الأوراق!
عَرِف العرب التنجيم منذ القدم، والمقصود هنا هو التنجيم الحسابي الذي تُعرف به الأزمنة والفصول واتجاه القبلة وغير ذلك من الأمور الفلكية. وقد اعتُبر هذا النوع من التنجيم أحد فروع علم الفلك آنذاك.
أما اليوم فقد أصبح الفرق شاسعًا جدًا بين المصطلحين، أحدهما على صلةٍ بالعلم والآخر على صلةٍ بالسحر؛ فعلم الفلك يعرّف بأنه فرع من فروع العلوم، يهتم بالدراسة العلمية للكون، أي دراسة حركة الأجرام السماوية ومواقعها وتكوينها وأحجامها بصورة موضوعية للوصول الى اكتشافات جديدة محتملة، عبر البحث والرصد والمراقبة.
وعلى مقلب آخر، فإن التنجيم، وإن وقع تحت مسمّى “علم”، فهو فعليًّا علم زائف، يعتمد على أدلة سطحية، بعيدًا عن المناهج العلمية، متخذًا من الأساطير مرجعًا لفهم الكون والإنسان والحياة، والتنبؤ بالآتي ومعرفة المستقبل.
ومع ثورة التكنولوجيا والاتصالات التي شهدها العالم، وجد التنجيم أبوابًا جديدة للتوسع والانتشار لا سيما في أوساط المجتمعات العربية التي أعارت جمجمتها للمنجمين الذين يستقطبون انتباه الناس وعقولهم، مع بداية كل عام، حين ينهالون عليهم بتوقعاتهم الغامضة أحيانًا، المبهرة أحيانًا أخرى، وعند كل صباح حين يدسّون توقعاتهم للأبراج الفلكية في الفقرات التلفزيونية أو عبر منصاتهم على مواقع التواصل الاجتماعي، لتتسلل بدورها الى عقول الناس وترمي بآثارها الخزعبلية عليهم!
كذب المنجمون ولو صدقوا
كغيرها من الظواهر الاجتماعية الأكثر انتشارًا، وضع علم النفس الحديث ظاهرة التنجيم قيد التجربة، وكان أبرز ما طُبق عليها من تجارب تلك التي تسمى بتأثير فورير (FORER EFFECT)، والتي تقول إن معظم الناس يميلون الى قبول أي وصف فضفاض للشخصية، على أن يصفهم بدقة، دون أن يدركوا أن هذا الوصف نفسه ممكن أن ينطبق أيضًا على أي شخص آخر، وهذا ما تفعله تمامًا عوالم الأبراج، حين تفيض بالتوقعات الواسعة التي يمكن تركيبها على أي شيء.
وبالرغم من انخفاض أعداد الدراسات المهتمة بهذا الشأن في العالم العربي، إلا أنه يكفي شاهدًا على ما ذُكر أن نلقي نظرة على أعداد المتابعين الذين يتفاعلون يوميًا مع هؤلاء المنجمين ممن يطلقون على أنفسهم -أو تطلق عليهم وسائل الاعلام السطحية- تسمية “علماء الفلك” أو “خبراء الأبراج”، فضلًا عن عدد المشاهدات التي تسجّل للحلقات المختصة بأخبار الأبراج سنويًا والتي قد تتخطى المليوني مشاهدة أحيانًا!
وفي دراسة أجريت تحت عنوان “Personality and individual differences”، ظهر أن الناس يميلون الى اللجوء الى المنجمين وتنبؤاتهم في حالات القلق من المشاكل وحالات عدم اليقين، ولعل ما تشهده البلدان العربية من صراعات وانهيارات وعدم استقرار قد دفع بالناس أكثر نحو ظواهر التنجيم بحثًا عن يقين مزيّف.
من زاوية أخرى، كان للديانات السماوية أيضًا موقفها في هذا الشأن، حيث رفضت الأديان بشكل عام التنجيم وحرمت اللجوء إليه، باعتباره أحد أشهر الخرافات والفلسفات الزائفة، فكيف لعاقل أن يعرف ما أخفاه الله عن الخلق من الغيب المستور والمستقبل المحجوب، والأدلة على ذلك كثيرة، لعل أبرزها الآيات القرآنية والأحاديث الشريفة التي عالجت بدقة هذه المسألة.
خلق الله سبحانه الإنسان في أحسن تكوين، وجعله سيد الخلق، وميّزه بنعمة العقل، وتدبّر الخالق أمور خلقه، رسم أقدارهم وخطّ معالم حياتهم، ولو شاء لأطلع العقول والأرواح على ما أخفاه في عالم الغيب عنهم.
إذًا، بالله عليكم، كيف لبشر مثلنا أن يأتي بما خص الخالق ذاته به؟ كيف لبشر أن يكشف ما حجبه الله، وأن يتنبأ للخلق برسائل الخالق؟ والمضحك المبكي في الأمر، كيف لعقل أن يأسره فضوله فيجعله مسيّرًا مقيدًا بتنبؤات كاذبة وهرطقات مزيفة؟
وخير الكلام ما يختصر أعظم الكلام: {وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إِلا هُوَ} – (الأنعام : 59).
النص يعبر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة عن رأي الموقع
التعليقات مغلقة.