قد يخال للمواطن العشوائي أنّ الأزمة مرتكزة على الغلاء الفاحش الذي يطاله شخصيًا فقط، وأنّه في يومٍ من الأيام (بعد خمس سنوات كما أشيع قبل عاميْن) سيذهب للمصرف ويسحب وديعته من الدولار الـfresh ويبتسم لموظفة المصرف ثمّ يذهب لمحطة الوقود ويملأ سيارته على التعرفة القديمة ويذهب ليلًا للسهر عند أحدِ أصدقائه ويأكلون “البزورات” كما عهدوا قُبيل العام 2020.
ما زال غالبيةُ الناس في صدمةٍ من جرّاء حجم الأزمات التي عصفت بهم والأحداث المتتالية المتسارعة التي لا يستطيع العقل البشري -نظريًا- استيعابها بهذه الكميّة. ليس من مسؤولية المواطن نفسه أن يُلمّ بالاقتصاد والسياسة وأن يتابع أسعار الصرف اليوميّة وأسعار النفط العالمية قبل بداية نهاره كما هو مفروضٌ على الشعب اللبناني، فلهذا السبب هم انتخبوا ممثّلين عنهم في مجلس النواب الذي بدوره ينتخب رئيس الجمهورية الذي بدوره يُعيّن رئيس حكومة بعد استشارة النواب فيشكّلان معًا حكومةً تشارك فيها الكتل النيابية ويعطيها المجلس الثقة أو يكفّها حسب آرائه فيها. هذا الكلام والتفسير عهدناه منذ الصغر في دروس التربية المدنية، وكما كثير مما نتعلمه في الصغر هو مجرد أكذوبة. ففي لبنان حاليًا ليس هناك من دولة، بشهادة كل أركانها الذين يناشدون الدولة يوميًا متناسين أنهم هم الدولة وليسوا بمواطنين.
الحياة البسيطة ليس لها تعريف موحّد. ولكن عند الأغلب هي كالتالي: تستيقظ صباحًا، تغسل وجهك، تشرب القهوة، تتصفح مواقع التواصل الاجتماعي، ترتدي ملابسك، تستقلّ المصعد وتذهب بالباص أو السيارة أو الدراجة إلى عملك، تنهي عملك، إما تعود للمنزل أو تذهب بموعد أو تخرج مع أصدقائك، ثمّ تعيد نفس السيناريو في اليوم المقبل. مملّة؟ ربّما، فلنذهب للتشويق في حياة اللبناني إذًا.
يستيقظ اللبناني صباحًا، هل هناك من ماء؟ مقطوعة؟ يغسل وجهه بقنينة ماء الشرب. ليس هناك من بنّ للقهوة الذي بات بسعر سدس الحدّ الأدنى للأجور؟ يشرب كأسًا من الماء، يمسك هاتفه الذي كان قد وضعه على الشاحن منذ الليلة الماضية على أمل أن يشحن إن عادت الكهرباء فيجده غيرَ مشحون. يرتدي ثيابه، ينزل على الدرج إذ ليس هناك من كهرباء للمصعد، يستقل الفان أو السرفيس، إذ ليس بإمكانه تحمّل تكاليف الوقود أو يذهب مشيًا على القدمين نحو عمله إن كان من بين أقل من نصف اللبنانيين العاملين، يصل إلى مكان عمله، يشحن هاتفه، ويبدأ بتصفح الأخبار. من المتوقع أنّ بلدًا صغيرًا مثل لبنان أخباره قليلة، ولكن من عاداتنا الاستماع إلى كل شيء، ففي لبنان خمسةُ ملايين محلّل سياسيّ استراتيجي اقتصادي، هذا عدا عن المحللين الكبار الذين تخالهم ضباطًا في المخابرات الدولية إن سمعت ثقتهم بأنفسهم عندما يفصحون عن الأسرار والخبايا السياسية المحلية والإقليمية والعالمية. يراقب سعر صرف الدولار كم ارتفع ليحسب إن صار أجره الشهري يساوي خمسين دولارًا أم ما زال يساوي اثنين وخمسين دولارًا. يبدأ في التركيز على العمل، على الأقل يحاول التركيز بعد استيعاب كمّ المعلومات التي دخلت عقله في نصف ساعة. يُنهي عمله، يعود إلى منزله، يجلس في سريره متأمِّلًا سقفًا ملأَه الظلام كما ملأ قلب المواطن.
مرفأ، مطار، مدرسة، مستشفى، مصرف. خمس ميمات يرتكز عليها نموّ الدولة. خسرنا المرفأ، والمطار بات يشكّل فقط محطّة تهجير الطاقات والمورد الأهم في أي دولة الذي هو الشعب، والمصرف قد سرق أموال مودعيه ولم يعد هناك من ثقة داخلية أو خارجية به -باستثناء إيلي الفرزلي طبعًا-، والمستشفى الذي كان يومًا من أسباب السياحة في لبنان قد مرض بدوره، والأطبّاء يهاجرون يوميًا، والمواطنون عاجزون عن دفع ثمن الكشفيّة وحبّة الدواء فضلًا عن دفع تكاليف المستشفى، وها هي المدرسة المتمثّلة بالتعليم يتمّ إغلاقها اليوم.
قد كان التعليم في لبنان -وحتى أثناء الحرب- من أبرز ما يتميّز به البلد، إذ تميّز لبنان -بفضل عوامل عديدة- بنسبة أميّة ضئيلة ونسبة كبيرة من حملة الشهادات فيه حتى اشتهرت منذ بضع سنوات دعابة أنّه لم يبقَ في لبنان من ليس معه على الأقل شهادة ماجستير. وكان هذا من أبرز أسباب تفوّق عديد من اللبنانيين المغتربين في الخارج، فكان اللبناني يهاجر عندما يجد فرصة عمل تليق بشهاداته وعلمه يستطيع فيها الحياة بمستوى معيشي لائق يكون قادرًا من خلاله على إرسال بعض الأموال إلى أهله في لبنان، ما كان داعمًا كبيرًا للاقتصاد اللبناني منذ التسعينيات وحتى اليوم.
الجامعة الوطنية اللبنانية -وحتى تاريخ اليوم- لم تبدأ بعد عامها الدراسي. هي الجامعة التي بات أغلب الشباب اليوم بحاجة ملحّة إليها لعدم استطاعة الجزء الأكبر من المواطنين تحمّل تكاليف الجامعات الخاصة حتى تلك التي تعتبر زهيدة. ربما هذه المصيبة هي من المصائب التي لا يوليها حتى الإعلام حجمها المناسب، فالجامعة ليست ترفًا، بل في منعها القضاء على مستقبل وحياة الآلاف من الشباب الذي لن يستطيع حتى أن يتقدّم أو يبحث عن وظيفة في الخارج كما كان مشروع أي شابّ من جيل التسعينيات حتى اليوم.
هذه المصيبة هي من المصائب العديدة التي سيظهر أثرُها في المستقبل القريب، وليس حالًا كسعر الدواء والوقود وغيره، مع الوقت سيقلّ عدد الطلاب في الجامعات الخاصة بفعل أسبابٍ واضحة، وإن لم يكن هناك من بديل لهم سيؤثِرون العمل على التعليم في بلدٍ لا مصانع فيه ولا زرع ولا عمل، وفي المرحلة القادمة قد نشهد ازدياد أعداد الأطفال الذين لم يتسجلوا حتى في مدارس، فالتخوّف حينها من تخريج جيل جديد أميّ غير متعلّم قد ينحو نحو الإجرام والنهب والسرقة وقد ينخرط بمافيات أو عصابات أو حتى مجموعات إرهابية، وإن كان حظه جيّدًا قد يستطيع النجاة على أحد زوارق الموت ويصل إلى شاطئ أحد البلاد ويعمل أجيرًا بأجرٍ يسمح له بأن يبقى على قيد الحياة لا غير.
المشهد سوداوي، ولكنّ المنطقَ يقودنا إلى هكذا استنتاج. نحن هنا لا نتكلّم عن سيناريو متوقّع بعد مائة عام، بل نتحدث عن سيناريو متوقّع أن يبدأ بعد قريب العشر سنوات إن لم يتمّ تدارك هذا الوضع. ولا يتمّ تعميم عبارة “إننا شعب نحب الحياة”، حتى في الأدغال تجد قبائل تعزف وترقص يوميًا وتحبّ الحياة وبيتها خيمة من القشّ ومأكولها ما تصطاده وملبوسها من ورق الشجر وجلود الحيوان، ليس من باب التنقيص من قيمتهم ولكن للدلالة على أنه ليس من رابطٍ بين حبّ الحياة والعيش الرغيد.
كلمتنا مدى الحياة: مش رح يصير فينا أسوأ من اللي عم يصير. بلى، يوميًا يصبح كل أمرٍ أسوأ، وسيبقى يسيء طالما أننا في دولة اللادولة، حيث لا قرار، لا قانون، لا عدل، لا محاسبة، لا مسؤولية، فيبقى المواطن رهينةَ الخنوع والتحمّل والصبر أو الهجرة إن استطاع إليها سبيلًا، وكأنّه كُتِب على هذا الشعب أن يُمضيَ كلّ حياته بالانتظار.
النص يعبر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة عن رأي الموقع
التعليقات مغلقة.