رغم كل المتغيرات التي طرأت على تعاطي حزب الله مع الازمات والاحداث الامنية والعسكرية والسياسية، يبقى الثابت الوحيد “سيكولوجيا حزب الله” اي عقليته في التعاطي مع المواقف السياسية، كذلك الاخبار الاعلامية، سواء الصحيحة أو الكاذبة.
التجربة مع الحزب أرست قاعدة مهمة جدًا لحلفائه وخصومه وأعدائه (أي مع فارق المواجهة)، أرست قاعدة للتعامل معه: افهمني قبل ان تكلمني. وياء المخاطبة هنا تعني عقلية حزب الله، التي فهمها جيدًا الحلفاء والخصوم، وحتى “اسرائيل”، لكن لم يفهمها الاعلام، وبالتالي بعض الجماهير ايضًا.
في التفنيد، يمكن جليًا الحديث عن عقلية هذا الحزب في التعاطي مع الحلفاء، لا سيما الاطراف المتخاصمة فيما بينها، كالتيار الوطني الحر وحركة أمل، اذ أوصل حزب الله في غير مرة رسائل للطرفين، أكد فيها “انتم عين، وهوليك عين”، ولو أن حزب الله يعتبر نفسه بشكل صريح حزبًا لصيقًا بأمل، لما لهذا الالتصاق من خصوصية في وحدة المسار والمصير للبيت الشيعي الداخلي، لكن دون أن يكون معنى ذلك أن حزب الله يفرّط بتحالفه “التكاملي” مع التيار. وقد تمكنت هذه العقلية من تخليص التحالفات من ازمات في أكثر من حدثٍ مفصلي. الامر نفسه، يطبقه الحزب على كافة حلفائه واصدقائه، فيحرص دومًا على أن يكون لهم استقلاليتهم التامة في قراراتهم وتصريحاتهم بعيدًا عن رغبة الحزب، وبعيدًا حتى عن “المَونة” التي غالبًا ما لا يستعملها حزب الله مع احد.
بيد أن تلك العقلية، استنبطت احكام تعاملها ايضًا مع الخصوم، لا سيما عقب معارك ٧ أيار من عام ٢٠٠٨، ليرسي حزب الله قاعدةً جديدة ثابتة، قوامها أن سقف الاختلاف والخصومة ممنوع أن يتخطى -أو يوصل- في يومٍ من الايام إلى حرب أهلية الكل بات يعرف أن القويّ فيها لا يريدها، والضعيف كان يستقتل للدفع نحوها.
نجح حزب الله على مرّ السنوات الماضية، بالممارسة لا الكلام، في أن يضع الخلاف تحت هذا السقف، الى أن اضطر مؤخرًا الامين العام للحزب السيد حسن نصر الله الى قولها جهارًا في خطابه في الثامن عشر من اذار من العام الجاري، حيث دعا يومها بوضوح الى “وضع سقف” في الضغوط والمواجهات السياسية “ألا وهو عدم الذهاب إلى اقتتال داخلي”.
لم يستوعب الكثير من خصوم الحزب عقليته هذه، كما فعل رئيس الحزب الاشتراكي وليد جنبلاط، ورئيس تيار المستقبل النائب سعد الحريري، رغم مناورتهما مع عقلية الحزب في أكثر من مرة، لكن النتيجة كانت الرضوخ لتلك العقلية، بعد أن فهمها الرجلان جيدًا.
وعلى العكس تمامًا، يذهب رئيس حزب القوات سمير جعجع بعيدًا في الخصومة، غير آبهٍ لذلك السقف الذي حدده السيد نصر الله، حتى قيل في احدى مرات الدفع نحو اقتتال داخلي أن الحمد لله أنّ الحكيم في لبنان “مش الحكيم”، والمقصود هنا جعجع.
اضافة الى ذلك، وضعت العقلية ركيزة اساسية في التعاطي مع كل الاطراف في البلد، قوامها منع تهميش اي طرف، او التسبب بعزلته السياسية، حتى خصوم الحزب الذين قد يريحه غيابهم عن المشهد السياسي، يكون الحزب حريصًا على اشراكهم في اي استحقاق سياسي، فهو، مع ذلك، يُتهم سلفًا بتصفية الحلفاء.
وجديد اتهامات التصفيات الحديث عن تهديد الحزب للمحقق العدلي في قضية انفجار المرفأ طارق البيطار، الذي لم يصنفه حزب الله كخصم حتى اللحظة، رغم كل الملاحظات المتعلقة بأدائه القضائي في قضية انفجار ٤ آب، الذي يعتبره الحزب على لسان امينه العام “مسيّسًا واستنسابيًا”.
الوقوف عند خبر التهديد يحتاج للكثير من الملاحظات، اولها -وهو مبني على ما فنده المقال اعلاه عن عقلية حزب الله في التعامل مع الحلفاء والخصوم- ولا يحتاج اثنان غير متحيزين في قراءة خطاب الحزب، ليعرفا أن الكلام الذي انتشر عن لسان مسؤول وحدة الارتباط والتنسيق وفيق صفا، لا يشبه لغة حزب الله الخطابية. التهديد عمومًا، لا يستعمله الحزب سوى مع اعدائه، لا خصومه، والعداء بالنسبة لحزب الله محصور بين العدو الاسرائيلي، والعدوّ التكفيري.
اذًا، لماذا لا ينفي حزب الله حتى اللحظة خبر التهديد هذا؟ رغم أن الحزب قد يفعل ذلك بين وقتٍ وآخر، في حال صار الخبر بمثابة تهديدٍ للامن القومي، لكن هناك ضرورة لمراجعة بيانات الحزب وظروفها، لكي يتعرف من لا يعرف بعد على عقلية الحزب في التعاطي مع اخبارٍ كهذه.
هي ليست المرة الاولى التي تنتشر فيها اخبار مسيئة للمقاومة، على وسائل اعلامية محلية، عربية وحتى عالمية، لكن لم يعمد حزب الله في أيٍّ من تلك المرات الى نفيها، وفي الحالات التي تصل الى ذروة في تقليب بعض الرأي العام على الحزب، يتطرق السيد نصر الله للموضوع، دون أن يحتاج حزبه الى “اصدار بيان”.
في استعراض بسيط لبعض الاخبار المسيئة للحزب، الحديث في احدى المرات، عن سجون تعذيب للحزب في قلب الضاحية الجنوبية، وفي مرات اخرى، اتهام الحزب بتجارة المخدرات وملكيته لمصانع الكبتاغون، وفي فاجعة الرابع من اب، وقبيل أن تنشف دماء الضحايا، اتهم الحزب بالتفجير، وفي حلقة تلفزيونية على قناة لبنانية اتهم الحزب بنقل النيترات الى الجنوب بشاحنة المجاهد “عماد كشلي”. هذه عينة بسيطة عن اتهامات خطيرة للحزب لم يستدعِ أيّ منها اصدار حزب الله بيانَ نفيّ. فهو إما يترك الحقيقة لأن يكشفها القادم من الايام، او يتطرق اليها السيد نصر الله عن طريق السخرية، فيسقطها في ارضها. غير ذلك، يومياً تضخ حسابات على مواقع التواصل الاجتماعي الاف الاتهامات للحزب، الذي بدوره يعتبرها غير موجودة، يهمشها، لا يقرؤها حتى. ايضًا وايضًا، قال الامين العام للحزب في خطابه ليلة الثامن من محرم، إن بعض اصحاب الاتهامات، من ناشطين واعلاميين وحتى من سياسيين كبار، يحاولون جر الحزب الى سجالات ورد، وردٍّ على الرد، لكن حزب الله يكتفي بالتطنيش.
أخيرًا، وبناءً على كل ما تقدم، ومع مراجعةٍ بسيطةٍ للبيانات التي اطلقها حزب الله منذ تأسيسه الى اليوم، يمكن القول لمن لم يفهم سيكولوجيا حزب الله بعد، إن البيانات التي يمكن انتظارها من الحزب ستكون متعلقة حصرًا اما بعملية من عمليات المقاومة، او باستشهاد احد قادة المقاومة، اما بقضية عربية او قومية او انسانية كحرب اليمن او كاستضعاف اهل البحرين، واما عن رحيلِ احدى القامات الروحية او السياسية، غير ذلك، سيطول الانتظار.
النص يعبر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة عن رأي الموقع
التعليقات مغلقة.