اهتزت الأرض ثانيتين، أكثر بقليل أو أقلّ بقليل. لا فرق. أذكر ثانيتين من اهتزاز الأرض قُبيل الصوت، ثانيتين كافيتين ليجهّز العقل نفسه للكارثة التي لم تتأخر. دويّ تلاه دويّ تلاه زجاج يتكسّر.
حضر تموز بكل أيامه في ثانية من صوت، وحضرت كلّ أصوات الانفجارات المحفوظة بعيون الذاكرة. والدخان الذي ارتفع غيمة تنذر بحجم الانفجار، علق في القلب، في كلّ قلب سارع ليهاتف عزيزًا خارج البيت.
إنّه عصر الرابع من آب ٢٠٢٠. تلك الدقائق الحافلة بآلاف الحكايات إذ يرويها كلّ فرد كما عاشها وكما تلقاها، هي في الواقع حكاية واحدة: حكاية مرفأ بيروت.
العنبر رقم ١٢. شحنة من نيترات الأمونيوم أو ما بقي من تلك الشحنة. فريق عمال التلحيم. الحريق الذي التقطته كل كاميرات جيران المرفأ. فريق الدفاع المدني الأول والذي تناثرت أجساد أفراده تمامًا مع الانفجار. العصف الهائل، الهائل كما العبارات التي تلازم الحكاية-الكارثة.
في الواقع، المرّ طبعًا، كان من المستحيل أن تحمل إلينا الساعات الأولى بعد الانفجار خبرًا يقينًا عن ماهيّته وطبيعته. لكن مرّ عام ولم يتغيّر الكثير على هذا الصعيد. بين التحقيق الفني المخفي في أدراج القضاء وتكاثر الجهات الباحثة عن التشويش على التحقيقات بهدف استثمار القضية في السياسة، ما زلنا كما كنا في الساعات الأولى بعد التفجير، نبحث عن بيان موضوعي ومسؤول وموثّق ومؤكد يخبرنا بحقيقة ما حدث في ذلك اليوم المشؤوم.
وكما في تلك الساعات بدأت تتفتّح أزاهير الشرّ في حقول السّاعين إلى اتهام حزب الله زورًا والزجّ باسمه في سياق التحليلات التافهة كأصحابها. ما زالت تلك الأزاهير الشيطانية تنمو وتلتف على عنق الحقيقة. وحدهم، أهالي الشهداء ضحايا الانفجار، وجرحاه، وكلّ من فقدوا موارد رزقهم يشعرون بأن ذاك الحريق الذي بدا وكأنّ فرق الإطفاء نجحت في إخماده في موقع الانفجار، ما زال يتأجج في قلوبهم بين حسرة على من خرجوا يومها وما عادوا، وبين الغبن الناتج عن تضييع حقيقة ما حدث وأدّى بهم إلى ما هم عليه اليوم.
دعنا من نماذج المتباكين المدفوعين سلفًا والذين يتقاضون أجر دمعهم بالعملة الصعبة من السفارات، من نماذج المتسلقين على أعمدة الوجع الملتهب كي يصلوا إلى استديو مارسيل غانم أو غيره ممّن أوكلت إليهم مهمة إدارة الاستثمار السياسي الإعلامي للقضية. اليوم، هو يوم الحزانى الذين لم يسمحوا لأحد بأن يتاجر بحزنهم، فوضعوا صور أحبتهم الشهداء أمام عيون قلوبهم، يحدقون بها في كلّ صباح ومساء ويتحسّرون بصمت كي لا يعلّق تافه شمع شهرته على شمعدان حسرتهم.
اليوم هو يوم أم علي “الحلو يلي عيونه عسلية”، وعشرات الأمهات اللواتي لم يرتضين الرقص على مسرح الذكرى، ولا ارتضين أن تكون أسماء حبّات عيونهنّ التي انطفأت مادة سياسي قاتل أو إعلامية دخلت معترك السياسة من باب الكذب.
اليوم هو يوم الجرحى الذين ما ارتضوا أن يبيعوا دمهم الذي نزف في ٤ آب إلى المنظمات المشبوهة التي تضمّد الجراح مقابل استخدام الجرح في ساحات الاستثمار “المدني” بالدم.
هو يوم البيوت التي شرّع الانفجار أسقفها وجدرانها وأبوابها ونوافذها على رياح المجهول الذي يخفي حقيقة النيترات ويزوّرها كي يستمرّ العصف أكثر، بل كي يبلغ العصف جدران الجهة التي لا يوجد دليل ظرفي أو تقني أو حتى سياسي على مسؤوليتها عن الكارثة.
الرابع من آب، حكايتنا نحن الناس الذين لا يستبدلون الحقيقة برضا السفارات وارشادات السفهاء والسفيهات، ولا يتاجرون بالحق الذي به يوقنون ولو كان الثمن حظوة في بلاط خيمة سفيه، أو صورة مع سفيهة.
يبقى جارحًا بقدر التفجير الكارثة أنّ المحتفلين اليوم بالمناسبة نسوا الأصول في استذكار حزن لم يندمل بعد، أو تناسوها لصالح احتفالية اتهامية تدوس على جثامين الضحايا وتؤدي فروض الطاعة لمن يدير دفّة الاتهام وتركيباته. جارحًا حد إثارة الشبهات حول دورهم في إخفاء الحقيقة، وربّما بشكل أو بآخر حول دورهم في ارتكاب ما جعل اليوم الرابع من آب ذاكرة لفجيعة عشناها جميعًا وجميعًا شاهدنا تزوير حكايتها كأنّنا لم نكن الشهود والضحايا في آن.
هي حكاية لم تنته بعد، وقد لا تنتهي إذا أصرّ المزوّرون على التمادي بارتكاباتهم، لكنّ ذلك لا يغيّر في حقيقة الحكاية شيئًا، وما يُخفى اليوم، سيجد حتمًا في يوم ما طريقه إلى العلن. هكذا علّمنا التاريخ. لا سرّ يبقى خفيًّا، ولا المرتكب يستطيع إخفاء ارتكابه إلى الأبد بالاتهام السياسي أو بغيره.
وبعد، نحن أهل الحكاية. لا الإخفاء ولا التزوير ولا التجييش ولا التسييس سيقوى على طمس شمس الحقيقة البسيطة التي تقول إننا
لسنا في موضع اتهام ولا في موقف دفاعي، مهما سعت شيا سعيها، ومهما استجابت لها رؤوس أدواتها المحنية من ثقل الخيانة والأثمان البخسة.
النص يعبر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة عن رأي الموقع
التعليقات مغلقة.